فصل: تغليظ الدّيات في الأشهر الحرم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الموسوعة الفقهية الكويتية ****


إشهارٌ

التعريف

1 - الإشهار‏:‏ مصدر أشهر بمعنى أعلن، والشّهر في اللّغة بمعنى الإعلان والإظهار‏.‏ يقال‏:‏ شهّرته بين النّاس وشهرته‏.‏ أي أبرزته وأوضحته‏.‏ أمّا الإشهار فغير منقولٍ لغةً - كما قال الفيّوميّ - ولكنّ الفقهاء استعملوه - ولا سيّما المالكيّة - بمعنى الإعلان‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - يستعمل الفقهاء الإشهار في مواطن كثيرةٍ‏.‏ منها المطلوب‏:‏ كإشهار النّكاح، والحجر، والحدود، والعقود والعهود‏:‏ ومنها الممنوع‏:‏ كإشهار الفاحشة‏.‏ ففي إشهار النّكاح‏:‏ يرى جمهور الفقهاء أنّه مندوبٌ بأيّ شيءٍ متعارفٍ كإطعام الطّعام عليه، أو إحضار جمعٍ من النّاس زيادةً على الشّاهدين، أو بالضّرب فيه بالدّفّ حتّى يشتهر ويعرف لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أظهروا النّكاح» وفي لفظٍ‏:‏ «أعلنوا النّكاح»‏.‏

مواطن البحث

3 - تبحث مسألة إشهار النّكاح في ‏(‏النّكاح‏)‏ عند الحديث عن أركانه أو الوليمة فيه‏.‏ ومسألة إشهار الصّلاة المكتوبة في، ‏(‏الصّلاة‏)‏ عند الكلام عن السّنن والنّوافل‏.‏ وإشهار قرار الحجر في ‏(‏الحجر‏)‏ عند الكلام عن معاملة المحجور عليه‏.‏

أشهر الحجّ

تحديد الفقهاء لأشهر الحج

1 - جمهور الفقهاء على أنّ أشهر الحجّ هي‏:‏ شوّالٌ، وذو القعدة، وعشرٌ من ذي الحجّة، لأنّ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ‏}‏ مقصودٌ به وقت الإحرام بالحجّ، لأنّ الحجّ لا يحتاج إلى أشهرٍ، فدلّ على أنّه أراد به وقت الإحرام‏.‏ وقد روي ذلك عن العبادلة الأربعة‏:‏ ابن عبّاسٍ، وابن عمر، وابن عمرٍو، وابن الزّبير رضي الله عنهم‏.‏ ولأنّ الحجّ يفوت بمضيّ عشر ذي الحجّة، ومع بقاء الوقت لا يتحقّق الفوات، وهذا يدلّ على أنّ المراد من الآية شهران وبعض الثّالث لا كلّه، لأنّ بعض الشّهر يتنزّل منزلة كلّه‏.‏ وهذا التّحديد يدخل فيه يوم النّحر عند الحنابلة والحنفيّة غير أبي يوسف‏.‏ وعند الشّافعيّة وأبي يوسف من الحنفيّة ليس منها يوم النّحر، بل على وجهٍ عند الشّافعيّة لا تدخل ليلة النّحر كذلك، لأنّ اللّيالي تبعٌ للأيّام، ويوم النّحر لا يصحّ فيه الإحرام، فكذا ليلته‏.‏ والمالكيّة - وإن كانوا يقولون إنّ أشهر الحجّ هي شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة - إلاّ أنّ مرادهم بذلك أنّ وقت الإحرام يبدأ من شوّالٍ إلى فجر يوم النّحر، أمّا الإحلال من الحجّ فيمتدّ إلى آخر ذي الحجّة‏.‏ ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ‏:‏ ثمرة الخلاف في تحديد أشهر الحجّ، على ما ذكره ابن رشدٍ، هي جواز تأخير طواف الإفاضة عند المالكيّة إلى آخر ذي الحجّة، فإن أخّره إلى المحرّم فعليه دمٌ، وعند الحنفيّة إن أخّره عن أيّام النّحر كان عليه دمٌ‏.‏ أمّا عند الشّافعيّة والحنابلة فإنّ آخره غير موقّتٍ، بل يبقى ما دام حيّاً ولا دم عليه‏.‏

علاقة أشهر الحجّ بالأشهر الحرم

2 - تظاهرت الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بأنّ الأشهر الحرم هي‏:‏ رجبٌ، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم، وهو قول عامّة أهل التّأويل‏.‏ وعلى ذلك فأشهر الحجّ تشترك مع الأشهر الحرم في ذي القعدة وعشرٍ من ذي الحجّة، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط، ورجبٌ وبقيّة ذي الحجّة من الأشهر الحرم فقط‏.‏

تحديد الفقهاء لأشهر الحجّ

الحكم الإجماليّ

3 - تحديد أشهر الحجّ مقصودٌ به أنّ الإحرام بالحجّ يتمّ في هذا الوقت، ولذلك يرى الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة كراهة الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت، والمراد عند الحنفيّة بالكراهة كراهة التّحريم، وبذلك صرّح القهستانيّ‏.‏ أمّا الشّافعيّة فلا ينعقد عندهم الإحرام بالحجّ في غير هذا الوقت، وإنّما ينعقد عمرةً، لأنّ الحجّ عبادةٌ مؤقّتةٌ، فإذا عقدها في غير وقتها انعقد غيرها من جنسها، كصلاة الظّهر إذا أحرم بها قبل الزّوال فإنّه ينعقد إحرامه بالنّفل‏.‏

مواطن البحث

4 - أشهر الحجّ تتمّ فيها مناسكه بما في ذلك من إحرامٍ وطوافٍ وسعيٍ ووقوفٍ‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏حجٌّ - طوافٌ - سعيٌ - إحرامٌ‏)‏‏.‏

الأشهر الحرم

المراد بالأشهر الحرم

1 - الأشهر الحرم هي الّتي ورد ذكرها في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق السّموات والأرض، منها أربعةٌ حرمٌ‏}‏‏.‏ وهنّ‏:‏ رجب مضر، وذو القعدة، وذو الحجّة، والمحرّم‏.‏ وهذا التّحديد تظاهرت به الأخبار عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏.‏ فعن أبي بكرة «أنّ النّبيّ قال‏:‏ إنّ الزّمان قد استدار كهيئته يوم خلق اللّه السّماوات والأرض، السّنة اثنا عشر شهراً منها أربعةٌ حرمٌ‏:‏ ثلاثٌ متوالياتٌ، ذو القعدة وذو الحجّة والمحرّم‏.‏ ورجب مضر الّذي بين جمادى وشعبان»‏.‏ وروي مثل ذلك عن أبي هريرة وقتادة، وهو أيضاً قول عامّة أهل التّأويل‏.‏

المقارنة بينها وبين أشهر الحجّ

2 - ذكر أشهر الحجّ ورد في قول اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏الحجّ أشهرٌ معلوماتٌ‏}‏‏.‏ وقد اختلف أهل التّأويل في ذلك‏.‏ فقيل‏:‏ إنّ أشهر الحجّ شوّالٌ وذو القعدة وذو الحجّة كلّه، يريدون بذلك أنّهنّ أشهر الحجّ، لا أشهر العمرة، وأنّ أشهر العمرة سواهنّ من شهور السّنة‏.‏ وقيل‏:‏ يعني بالأشهر المعلومات شوّالاً وذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة‏.‏ وقد صوّب الطّبريّ ذلك القول، لأنّ ذلك من اللّه خيرٌ من ميقات الحجّ، ولا عمل للحجّ يعمل بعد انقضاء أيّام منًى وعلى ذلك فبين أشهر الحجّ والأشهر الحرم بعض التّداخل، إذ أنّ ذا القعدة وعشراً من ذي الحجّة من أشهر الحجّ والأشهر الحرم، أمّا شوّالٌ فهو من أشهر الحجّ فقط، والمحرّم ورجبٌ من الأشهر الحرم فقط‏.‏

فضل الأشهر الحرم

3 - الأشهر الحرم فضّلها اللّه على سائر شهور العام، وشرّفهنّ على سائر الشّهور‏.‏ فخصّ الذّنب فيهنّ بالتّعظيم، كما خصّهنّ بالتّشريف، وذلك نظير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏حافظوا على الصّلوات والصّلاة الوسطى‏}‏ قال ابن عبّاسٍ‏:‏ خصّ اللّه من شهور العام أربعة أشهرٍ فجعلهنّ حرماً، وعظّم حرماتهنّ، وجعل الذّنب فيهنّ والعمل الصّالح والأجر أعظم، وعن قتادة‏:‏ الظّلم في الأشهر الحرم أعظم خطيئةً ووزراً من الظّلم فيما سواها، وإن كان الظّلم في كلّ حالٍ عظيماً، ولكنّ اللّه يعظّم من أمره ما شاء، فإنّ اللّه تعالى اصطفى صفايا من خلقه، اصطفى من الملائكة رسلاً، ومن النّاس رسلاً، واصطفى من الكلام ذكره، واصطفى من الأرض المساجد، واصطفى من الشّهور رمضان والأشهر الحرم، واصطفى من الأيّام يوم الجمعة، واصطفى من اللّيالي ليلة القدر‏.‏ قال قتادة‏:‏ فعظّموا ما عظّم اللّه، فإنّما تعظّم الأمور بما عظّمها اللّه عند أهل الفهم وأهل العقل‏.‏

ما تختصّ به من الأحكام

أ - القتال في الأشهر الحرم ‏:‏

4 - كان القتال في الأشهر الحرم محرّماً في الجاهليّة قبل الإسلام، فكانت الجاهليّة تعظّمهنّ وتحرّم القتال فيهنّ، حتّى لو لقي الرّجل منهم فيهنّ قاتل أبيه أو أخيه تركه‏.‏ قال النّيسابوريّ في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذلك الدّين القيّم‏}‏، أي هو الدّين المستقيم الّذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام، وقد توارثته العرب منهما فكانوا يحرّمون القتال فيها‏.‏ ثمّ جاء الإسلام يؤيّد حرمة القتال في الأشهر الحرم بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه‏.‏ قل قتالٌ فيه كبيرٌ وصدٌّ عن سبيل اللّه وكفرٌ به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند اللّه والفتنة أكبر من القتل‏}‏‏.‏

ب - هل نسخ القتال في الأشهر الحرم ‏؟‏

5 - اختلف أهل التّأويل في الآية الّتي أثبتت حرمة القتال في الأشهر الحرم، وهي قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه‏.‏ قل قتالٌ فيه كبيرٌ‏}‏ هل هو منسوخٌ أم ثابت الحكم ‏؟‏ قال بعضهم‏:‏ إنّ ذلك حكمٌ ثابتٌ، لا يحلّ القتال لأحدٍ في الأشهر الحرم، لأنّ اللّه جعل القتال فيه كبيراً‏.‏ وقال بعضهم‏:‏ هو منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً‏}‏ وردّ ذلك عن الزّهريّ وعطاء بن ميسرة‏.‏ قال عطاء بن ميسرة‏:‏ أحلّ القتال في الشّهر الحرام في براءةٌ قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً‏}‏، يقول‏:‏ فيهنّ وفي غيرهنّ‏.‏ وعن الزّهريّ قال‏:‏ «كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا يحرّم القتال في الشّهر الحرام ثمّ أحلّ بعد»‏.‏ قال الطّبريّ‏:‏ والصّواب من القول في ذلك ما قال عطاء بن ميسرة من أنّ النّهي عن قتال المشركين في الأشهر الحرم منسوخٌ بقول اللّه عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏إنّ عدّة الشّهور عند اللّه اثنا عشر شهراً في كتاب اللّه يوم خلق اللّه السّموات والأرض منها أربعةٌ حرمٌ ذلك الدّين القيّم فلا تظلموا فيهنّ أنفسكم وقاتلوا المشركين كافّةً كما يقاتلونكم كافّةً‏}‏‏.‏ وإنّما قلنا ذلك ناسخٌ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏يسألونك عن الشّهر الحرام قتالٍ فيه‏.‏ قل قتالٌ فيه كبيرٌ‏}‏ لتظاهر الأخبار بذلك عن رسول اللّه‏.‏

تغليظ الدّيات في الأشهر الحرم

6 - اختلف الفقهاء في تغليظ دية القتل في الأشهر الحرم أو عدم تغليظها، فالشّافعيّة والحنابلة يرون تغليظ الدّية للقتل في الأشهر الحرم‏.‏ وعند الحنفيّة والإمام مالكٍ لا تغلّظ الدّية‏.‏ ومن قال بالتّغليظ اختلف في صفتها، فقيل‏:‏ إنّها ثلاثون حقّةً وثلاثون جذعةً وأربعون خلفةً، وقيل غير ذلك، ويفصّل الفقهاء ذلك في الدّيات‏.‏

إصبعٌ

التعريف

1 - الإصبع‏:‏ معروفةٌ لغةً وعرفاً‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

أ - تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء‏:‏

2 - ذهب الفقهاء إلى أنّ تخليل أصابع اليدين والرّجلين في الوضوء مطلوبٌ، وجمهور الفقهاء على أنّه مسنونٌ في اليدين والرّجلين، والمالكيّة يرون أنّه واجبٌ في اليدين‏.‏ واختلفوا في وجوبه في الرّجلين‏.‏ فقال جماعةٌ منهم بالوجوب، وقال الآخرون بأنّه مسنونٌ في الرّجلين، والّذين فرّقوا يرون أنّ التّخليل في أصابع الرّجلين فيه نوعٌ من العسر‏.‏ واستدلّوا على الوجوب بما روي عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما أنّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا توضّأت فخلّل بين أصابع يديك ورجليك»‏.‏ واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأنّ آية الوضوء وردت مطلقةً عن التّخليل‏.‏

كيفيّة التّخليل

3 - يكفي في تحقّق التّخليل أي كيفيّة يخلّل بها بين الأصابع، إلاّ أنّ بعض الفقهاء توسّع في بيان الكيفيّة، فقالوا‏:‏ إنّ تخليل الأصابع في اليدين يكون بتشبيك أصابع اليدين، مع وضع باطن اليسرى على ظاهر اليمنى والعكس، وفي الرّجلين يخلّل بخنصر يده اليمنى، مبتدئاً بخنصر رجله اليمنى منتهياً بإبهامها، وفي اليسرى يبتدئ بإبهامها منتهياً بخنصرها‏.‏

ب - وضع الأصابع في الأذنين عند الأذان‏:‏

4 - يسنّ أن يجعل المؤذّن أصبعيه في صماخي أذنيه عند الأذان، لأنّه أجمع للصّوت، «لقوله صلى الله عليه وسلم لبلالٍ‏:‏ اجعل إصبعيك في أذنيك فإنّه أرفع لصوتك»‏.‏

ج - ما يتعلّق بالأصابع في الصّلاة

5 - يكره في الصّلاة تشبيك الأصابع، وفرقعتها، وتحريكها إلاّ عند التّشهّد، فإنّه يرفع السّبّابة عند النّفي، ويضعها عند الإثبات‏.‏

د - قطع الأصابع

6 - قطع الإصبع الأصليّة إن كان عمداً ففيه القصاص، وإن كان خطأً ففيه الدّية، وهي عشر دية النّفس، أمّا إذا كانت زائدةً ففيها حكومة عدلٍ عند جمهور الفقهاء‏.‏ ويرى المالكيّة أنّها إن كانت في قوّة الإصبع الأصليّة ففيها دية الإصبع، وتفصيل ذلك في الجنايات والدّيات‏.‏

إصرارٌ

التعريف

1 - الإصرار لغةً‏:‏ مداومة الشّيء وملازمته والثّبوت عليه واصطلاحاً‏:‏ الإصرار‏:‏ هو العزم بالقلب على الأمر وعلى ترك الإقلاع عنه‏.‏ وأكثر ما يستعمل الإصرار في الشّرّ والإثم والذّنوب‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - الإصرار إمّا أن يكون عن جهلٍ، أو عن علمٍ‏.‏ فإذا كان الإصرار عن جهلٍ فقد يعذر من لا يعلم حرمة الفعل الّذي أصرّ عليه‏.‏ أمّا إذا كان عن علمٍ بالحكم فإنّ الفاعل يكون آثماً إذا كان على معصيةٍ، ويتضاعف إثمه بمقدار ما هو عليه من جرمٍ، لأنّ الإصرار على الصّغيرة كبيرةٌ، والإصرار على الكبائر يؤدّي إلى عظم ذنبها وزيادة وزرها‏.‏ وأمّا إذا كان الإصرار على غير معصيةٍ، فإنّه قد يكون مندوباً إليه، كالإصرار على عدم إفشاء أسرار المسلمين للعدوّ رغم ما يلاقيه من عنت الأعداء‏.‏ وقد يكون واجباً، كالمداومة على فعل الطّاعات وترك المعاصي‏.‏ أمّا الإصرار على المعصية دون تحقّقها ففيه رأيان‏:‏

الأوّل‏:‏ يؤاخذ به الإنسان لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يرد فيه بإلحادٍ بظلمٍ نذقه من عذابٍ أليمٍ‏}‏، وقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النّار‏.‏ قالوا‏:‏ يا رسول اللّه هذا القاتل فما بال المقتول، قال‏:‏ إنّه كان حريصاً على قتل صاحبه»‏.‏ الثّاني‏:‏ لا يؤاخذ به الإنسان، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من همّ بسيّئةٍ فلم يعملها لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيّئةٌ واحدةٌ» وقد ضعّف القرطبيّ هذا الرّأي، وحمل الحديث على أنّ معنى «فلم يعملها» فلم يعزم على عملها‏.‏

مبطلات الإصرار

3 - أ - يبطل الإصرار على المعصية بالتّوبة، حيث لا إصرار مع التّوبة، لما روي‏:‏ «ما أصرّ من استغفر، وإن عاد في اليوم سبعين مرّةً» وللقاعدة المعروفة‏:‏ ‏(‏لا كبيرة مع الاستغفار، ولا صغيرة مع الإصرار‏)‏‏.‏

ب - يبطل الإصرار بترك المصرّ عليه واتّباع غيره‏.‏

مواطن البحث

4 - أ - قرّر الفقهاء أنّ الإصرار على الصّغائر مسقطٌ للعدالة - انظر ‏(‏شهادةٌ، وتوبةٌ‏)‏‏.‏

ب - إصرار المرتدّ بعد استتابته يوجب القتل، لحديث رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من بدّل دينه فاقتلوه» انظر ‏(‏ردّةٌ‏)‏‏.‏

ج - إصرار المدّعى عليه على السّكوت على جواب الدّعوى يعدّ منه إنكاراً ونكولاً‏.‏ انظر ‏(‏دعوى‏)‏‏.‏

اصطيادٌ

انظر‏:‏ صيدٌ‏.‏

أصلٌ

التعريف

1 - الأصل يجمع على أصولٍ‏.‏ وقد كثر استعمال الأصل، فاستعمل في كلّ ما يستند إليه غيره ويبتني عليه، من حيث إنّه يبتني عليه ويتفرّع عنه، فالأب أصلٌ للولد، والأساس أصلٌ للجدار، والنّهر أصلٌ للجدول‏.‏ وسواءٌ أكان الابتناء حسّيّاً كما مثّل، أم عقليّاً كابتناء المدلول على الدّليل‏.‏

2 - ويطلق الأصل في الاصطلاح بمعانٍ ترجع كلّها إلى استناد الفرع إلى أصله وابتنائه عليه، ومن تلك المعاني الاصطلاحيّة‏:‏

1 - الدّليل في مقابلة المدلول‏.‏

2 - القاعدة الكلّيّة‏.‏

3 - المستصحب، وهو الحالة الماضية‏.‏

4 - ما يقابل الأوصاف‏.‏

5 - وعلى أصول الإنسان‏:‏ أبيه وأمّه، وأجداده وجدّاته وإن علوا‏.‏

6 - على المبدل منه في مقابلة البدل‏.‏

7 وعلى أصل القياس ‏(‏المحلّ المقيس عليه‏)‏

8 - وعلى الأصول في باب البيوع، ونحوها الأشجار والدّور ونحو ذلك في مقابلة الثّمرة والمنفعة‏.‏

9 - وعلى أصول المسائل في الميراث، يخرج منه فرض المسألة أو فروضها بلا كسرٍ‏.‏

10 - وعلى الأصل في باب رواية الأخبار‏:‏ ‏(‏الشّيخ المرويّ عنه في مقابلة الفرع، وهو الرّاوي، أو النّسخة المنقول منها في مقابلة النّسخة المنقولة‏)‏‏.‏

11 - وعلى أصول كلّ علمٍ ‏(‏مبادئه والقواعد العامّة الّتي تستخدم في دراسته‏)‏‏.‏

وفيما يلي بيان هذه الأنواع بإيجازٍ‏:‏

أ - الأصل بمعنى الدّليل

3 - يطلق الأصل بمعنى الدّليل، كقول الفقهاء‏:‏ الأصل في وجوب الحجّ الكتاب والسّنّة والإجماع‏.‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وللّه على النّاس حجّ البيت‏}‏‏.‏ والأصول الّتي يستدلّ بها في علم الشّريعة عند الجمهور هي‏:‏ القرآن العظيم، والسّنّة النّبويّة الشّريفة، والإجماع، والقياس‏.‏ وهناك أدلّةٌ مختلفٌ فيها‏.‏ وينظر تفصيل ذلك في الملحق الأصوليّ‏.‏

وأصول الإثبات‏:‏ الأدلّة الّتي تقدّم في التّقاضي، مثل البيّنة واليمين والإقرار والنّكول‏.‏

ب - الأصل بمعنى القاعدة الكلّيّة

4 - القاعدة الكلّيّة حكمٌ أكثريٌّ، ينطبق على معظم جزئيّات موضوعها‏.‏ وتسمّى الأحكام الدّاخلة فيها فروعها، واستخراجها من القاعدة الكلّيّة تفريعٌ عليها‏.‏ فقول الفقهاء‏:‏ «اليقين لا يزول بالشّكّ ‏"‏ أصلٌ من أصول الفقه بهذا المعنى، وإن كانت لا تدخل في ‏(‏أصول الفقه‏)‏ بمعناه العلميّ، كما سيأتي‏.‏ وللتّفصيل ينظر مصطلح ‏(‏قواعد‏)‏ والملحق الأصوليّ‏.‏

ت - الأصل بمعنى الحالة الماضية المستصحبة

5 - يطلق الأصل على المستصحب، وهو الحالة الماضية، في مقابلة الحالة الطّارئة، كقولهم‏:‏ إذا شكّ في الطّهارة والحدث يستصحب الأصل‏.‏

ث - الأصل بمعنى ما قابل الوصف

6 - من ذلك تفرقة الحنفيّة بين الباطل والفاسد في المعاملات، فما كان الخلل في أصله فهو باطلٌ غير منعقدٍ، وما كان في وصفه فهو منعقدٌ فاسدٌ، وتفصيله في ‏(‏بطلانٌ، وفسادٌ‏)‏‏.‏

ج - أصول الإنسان

7 - أصول الإنسان هم‏:‏ أبوه وأمّه وأجداده وجدّاته من الطّرفين‏.‏ وسمّوا بذلك لأنّه فرعٌ لهم‏.‏ ويقال للأصول والفروع‏:‏ عمودا النّسب، والقرابة بين النّوعين تسمّى قرابة الولاد، أو الولادة‏.‏ والأصول من أقرب القرابات إلى الإنسان، ولذا كان لهم في الشّرع أحكامٌ يشاركون فيها سائر القرابات، من المحرميّة والميراث والبرّ والصّلة وغير ذلك‏.‏ ثمّ إنّ النّفقة تجب للأصول إذا كانوا محتاجين، ولا يجوز صرف الزّكاة إليهم‏.‏ وفي ذلك تفصيلٌ ‏(‏ر‏:‏ زكاةٌ‏.‏ نفقةٌ‏)‏ ولكلٍّ نوعٍ من الأصول أحكامٌ تخصّه ‏(‏ر‏:‏ أبٌ‏.‏ أمٌّ‏.‏ جدٌّ‏.‏ جدّةٌ‏)‏‏.‏

8 - وللأصول وللفروع - كلٌّ تجاه الآخر - أحكامٌ معيّنةٌ يختصّون بها دون سائر الأقارب، عدّها السّيوطيّ من الشّافعيّة كما يلي‏:‏

أ- لا يقطع أحد الطّرفين بسرقة مال الآخر‏.‏

ب- ولا يقضي ولا يشهد للآخر‏.‏

ت - ولا يدخلون في الوصيّة للأقارب‏.‏

ث - وتحرم موطوءة كلٍّ منهما ومنكوحته على الآخر‏.‏

ج - ومن ملك منهم الآخر عتق عليه‏.‏

ح - جواز بيع المسلم منهم للكافر إن كان مملوكاً، لأنّه يعتق عليه‏.‏

خ - وجوب النّفقة عند العجز ووجوب الفطرة ‏(‏ر‏:‏ زكاة الفطر‏)‏‏.‏ وفي بعض هذه المسائل تفصيلاتٌ واشتراطاتٌ وخلافٌ‏.‏ ولمعرفة ذلك تنظر كلّ مسألةٍ في بابها‏.‏

9 - وللأصول أحكامٌ خاصّةٌ ينفردون بها عن الفروع وسائر القرابات، حصر منها السّيوطيّ - من الشّافعيّة - جملةً هي ما يلي‏:‏

1 - لا يقتل الأصل بالفرع قصاصاً، وكذلك لا يقتل الأصل قصاصاً إذا كان وليّ القصاص الفرع، أمّا الفرع فيقتل بالأصل‏.‏ كما يقتل للأصل أيضاً، وذلك إذا كان الأصل وليّ الدّم، كما لو قتل الولد عمّه وكان أبو الولد وليّ الدّم‏.‏

2 - لا يحدّ الأصل بقذفه للفرع، ويحدّ الفرع بقذفه‏.‏

3 - لا يحبس الأصل بدين الفرع‏.‏

4 - لا تقبل شهادة الفرع على أصله بما يوجب قتلاً‏.‏

5 - لا يجوز المسافرة بالفرع الصّغير إلاّ بإذن أصوله‏.‏

6 - ولا يجوز له الخروج للجهاد إلاّ بإذنهم‏.‏

7 - لا يجوز التّفريق بين الأصل والفرع بالبيع إن كانا مملوكين‏.‏

8 - للأصل أن يمنع الفرع من الإحرام‏.‏

9 - إذا دعاه أصله وهو في الصّلاة يجيبه، وفي بطلان الصّلاة بذلك اختلافٌ‏.‏

10- للأصل تأديب الفرع وتعزيره‏.‏

11 - للأصل الرّجوع فيما وهب للفرع‏.‏

12 - يتبع الفرع - إن كان صغيراً - أصله في الإسلام‏.‏

13 - يهنّأ كلٌّ من الأصول بالمولود‏.‏ ووافق ابن نجيمٍ - من الحنفيّة - على أكثر هذه الفروع، وأضاف‏:‏

14 - لا يجوز للفرع قتل أصله الحربيّ إلاّ دفاعاً عن نفسه‏.‏ وفي كلّ ما سبق من هذه الأحكام الخاصّة بأصول الإنسان خلافٌ وتفصيلٌ يرجع في كلّ شيءٍ منها إلى بابه‏.‏

ح-الأصل بمعنى المتفرّع منه

10 - تتعلّق بالأصل بهذا المعنى أحكامٌ شرعيّةٌ منها قواعد فقهيّةٌ‏.‏ ومن ذلك ما جاء في مجلّة الأحكام العدليّة في المادّتين التّاليتين‏:‏

أ - قد يثبت الفرع مع عدم ثبوت الأصل ‏(‏م 81‏)‏ فلو ادّعى شخصٌ على اثنين أنّ أحدهما استقرض منه مبلغاً، وأنّ الثّاني قد كفله، فاعترف الكفيل وأنكر الآخر، وعجز المدّعي عن إثبات دعواه، يؤخذ المبلغ من الكفيل، لأنّ المرء مؤاخذٌ بإقراره‏.‏ وكذا لو أقرّ شخصٌ لمجهول النّسب أنّه أخوه، وأنكر الأب، ولا بيّنة، يؤاخذ المقرّ بإقراره، فيقاسمه المقرّ له حصّته من الميراث، ولا تثبت الأبوّة‏.‏

ب - إذا سقط الأصل سقط الفرع ‏(‏م 50‏)‏ ولا يلزم من سقوط الفرع سقوط الأصل‏.‏ فلو أبرأ الدّائن المدين برئ الكفيل أيضاً، وسقط الرّهن إن كان الدّين موثّقاً بكفيلٍ أو رهنٍ‏.‏ بخلاف ما لو أبرأ الدّائن الكفيل، أو ردّ الرّهن، فإنّ الدّين لا يسقط‏.‏

خ - الأصل بمعنى المبدل منه

11 - وذلك كما في إحدى قواعد المجلّة ونصّها‏:‏ ‏(‏إذا تعذّر الأصل يصار إلى البدل‏)‏‏(‏م 53‏)‏ ومثاله‏:‏ يجب ردّ عين المغصوب ما دامت قائمةً، فإذا هلكت يردّ بدلها من مثلها أو قيمتها‏.‏ وإذا تعذّر ردّ المبيع المعيب لمانعٍ شرعيٍّ، كما لو كان المبيع ثوباً فصبغه المشتري، ثمّ ظهر فيه عيبٌ قديمٌ، يستردّ المشتري من البائع فرق نقصان العيب‏.‏ لكن إذا وجدت القدرة على الأصل قبل استيفاء المقصود من البدل ينتقل الحكم إلى الأصل، كالمعتدّة بالأشهر بدلاً عن الحيض، فلو حاضت في أثناء ذلك يرجع الحكم إلى الأصل، فتعتدّ بالحيض، وكالمتيمّم إذا وجد الماء خلال صلاته يلزمه التّوضّؤ لها‏.‏

د - الأصل في القياس

12 - الأصل أحد أركان القياس الأربعة، وهي‏:‏ الأصل والفرع والعلّة والحكم‏.‏ فمن قاس الذّرة على البرّ في جريان الرّبا فيه، بجامع الكيل في كلٍّ منهما، فإنّ البرّ في هذا القياس هو الأصل، والذّرة فرعٌ، والكيل العلّة، وتحريم الرّبا هو الحكم‏.‏ ويرجع في تفصيل ذلك إلى مباحث القياس من الكتب الأصوليّة، وإلى الملحق الأصوليّ‏.‏

ر - الأصول بمعنى الدّور والأشجار في مقابل المنفعة والثّمرة

13 - يتحدّث الفقهاء عن بيع الأصل دون الثّمرة، والثّمرة دون الأصل، وبيع الأصل بشرط أن تكون معه الثّمرة‏.‏ فيذكرون أنّه إن باع النّخل مثلاً، ولم ينصّا على الثّمرة لمن تكون، فإنّها بعد التّأبير للبائع عند الجمهور متروكةٌ إلى الجذاذ، وكذا سائر الشّجر سوى النّخل، إذا بيع بعد أن تفتّحت أكمامه أو ظهرت الثّمرة‏.‏ وفي ذلك خلافٌ وتفصيلٌ يذكره الفقهاء ضمن ‏(‏باب بيع الأصول والثّمار‏)‏ من كتاب البيع‏.‏

ز - أصل المسألة

أصل المسألة عند الفقهاء والأصوليّين‏:‏

14 - يطلق الفقهاء لفظ ‏"‏ أصل المسألة ‏"‏ على القاعدة الفقهيّة المستنبطة من القرآن والسّنّة، والّتي تشهد لها الفروع بالصّحّة، كما سبق‏.‏ كما يطلقونه في الميراث على أقلّ عددٍ يخرج منه فرض المسألة أو فروضها‏.‏ ويعرف أصل المسألة في الميراث بالنّظر في مخارج فروض الورثة المستحقّين للميراث‏:‏ فإن كان في المسألة وارثٌ واحدٌ فأصل المسألة من مخرج فرضه‏.‏ وإن كان في المسألة أكثر من وارثٍ، ولكنّ مخارج فرائض جميع الورثة من مضاعفات مخرج النّصف فقط، أو من مضاعفات مخرج الثّلث فقط، فأصل المسألة يكون أكبر مخرجٍ من هذه الفرائض‏.‏ كما إذا اجتمع في المسألة 2 / 1 ‏(‏نصفٌ‏)‏ و 4 / 1 ‏(‏ربعٌ‏)‏ و 8 / 1 ‏(‏ثمنٌ‏)‏ فأصل المسألة من ‏(‏8‏)‏ لأنّه أكبر هذه المخارج‏.‏ وكما إذا اجتمع 3 / 1 ‏(‏ثلثٌ‏)‏، 3 / 2 ‏(‏ثلثان‏)‏، 6 / 1 ‏(‏سدسٌ‏)‏ فأصل المسألة من ‏(‏6‏)‏، لأنّه أكبر هذه المخارج‏.‏ أمّا إذا اجتمع في المسألة ما كان مخرجه 2 / 1 ‏(‏نصفٌ‏)‏ أو مضاعفاته، مع ما كان مخرجه 3 / 1 ‏(‏ثلثٌ‏)‏ أو مضاعفاته فينظر‏:‏ فإن كان في المسألة 2 / 1 ‏(‏نصفٌ‏)‏ و 3 / 1 ‏(‏ثلثٌ‏)‏ فأصل المسألة من ‏(‏6‏)‏ وإن كان في المسألة 4 / 1 ‏(‏ربعٌ‏)‏ و 3 / 1 ‏(‏ثلثٌ‏)‏ فأصل المسألة من ‏(‏12‏)‏ وإن كان في المسألة 8 / 1 ‏(‏ثمنٌ‏)‏ و 6 / 1 ‏(‏سدسٌ‏)‏ فأصل المسألة من ‏(‏24‏)‏ وتفصيل ذلك كلّه موجودٌ في الإرث عند بحث ‏(‏أصول المسائل‏)‏‏.‏

س- تغيّر أصول المسائل

15 - هذه الأصول قد يحدث أن تكون صالحةً للقسمة على المستحقّين، وقد لا تكون صالحةً، وعندئذٍ تحتاج إلى تصحيحٍ بالزّيادة عليها، أو الإنقاص منها أو إجراء إصلاحٍ عليها‏.‏

أ - تكون الزّيادة عليها إذا زادت سهام المستحقّين على أصل المسألة، وعندئذٍ يقال‏:‏ إنّ المسألة قد عالت ‏(‏ر‏:‏ عولٌ‏)‏‏.‏

ب - ويكون الإنقاص منها إذا نقصت سهام المستحقّين عن عدد سهام أصل المسألة، وعندئذٍ يقال‏:‏ إنّ المسألة ردّيّةٌ ‏(‏ر‏:‏ ردٌّ‏)‏‏.‏

ج - ويكون الإصلاح بتغييرٍ يطرأ على الشّكل لا على القيمة، وذلك في حالاتٍ‏:‏

الحالة الأولى‏:‏ إذا كانت الحصّة الخارجة من أصل المسألة لبعض الورثة غير صالحةٍ للقسمة عليهم بغير كسرٍ، وعندئذٍ يضطرّ لإجراء الإصلاح لإزالة الكسر، ويسمّى هذا الإصلاح ب‏(‏تصحيح المسائل‏)‏‏.‏

الحالة الثّانية‏:‏ إذا اضطرّ لتقسيم التّركة باعتبارين، لإعطاء الورثة الأقلّ من الحظّين - كما في حالة وجود حملٍ في بطن زوجة الميّت حين وفاته - حيث تحسب المسألة مرّتين‏:‏ الأولى يفرض فيها الحمل ذكراً، والثّانية يفرض فيها الحمل أنثى، ثمّ يجري إصلاحٌ على أصلي المسألتين، بصنع المسألة الجامعة، كما هو مفصّلٌ في كتب المواريث في مبحث ‏(‏إرث الحمل‏)‏‏.‏

الحالة الثّالثة‏:‏ إذا اتّفق الورثة مع أحدهم على إخراجه من البيّن على مبلغٍ يؤدّونه إليه، اقتسام حصّته فيما بينهم، وهذا ما يعرف ب ‏(‏التّخارج‏)‏ ‏(‏ر‏:‏ تخارجٌ‏)‏‏.‏

الحالة الرّابعة‏:‏ إذا توفّي رجلٌ ولم يقسم ميراثه إلاّ بعد وفاة بعض الورثة، وكان لهذا الميّت الثّاني ورثةٌ، وهو ما يسمّى بالمناسخة ‏(‏ر‏:‏ مناسخةٌ‏)‏‏.‏ وكلّ ذلك مبسوطٌ بالتّفصيل في كتب المواريث‏.‏

ش - الأصل في باب الرّواية

16 - الأصل عند رواة الأحاديث ونقلة الأخبار هو‏:‏ الشّيخ المرويّ عنه، في مقابلة ‏"‏ الفرع ‏"‏ وهو‏:‏ الرّاوي عن ذلك الشّيخ‏.‏ ويقال مثل ذلك في نسخ الكتب، فالأصل هو النّسخة المنقول منها، والفرع النّسخة المنقولة‏.‏ هذا ويذكر الأصوليّون أنّ الأصل إذا كذّب الفرع في روايته عنه سقط الحديث المرويّ اتّفاقاً، لانتفاء صدقهما معاً في هذا الحديث، إذ يشترط للصّحّة صدقهما جميعاً‏.‏ وبفوات ذلك تفوت الحجّيّة‏.‏ فقد أورث هذا التّكذيب ريبةً قويّةً لا حجّيّة بعدها‏.‏ لكن لو قال الأصل‏:‏ ‏(‏لا أدري‏)‏ أي لم يكذّب الفرع صريحاً، فالأكثر قالوا‏:‏ يبقى المرويّ حجّةً ولا تسقط بذلك حجّيّته، خلافاً للكرخيّ وأبي زيدٍ، وللإمام أحمد روايتان‏.‏ وينظر تمام البحث في الملحق الأصوليّ، وباب السّنّة من كتب الأصول‏.‏

ص - أصول العلوم

17 - كثيراً ما يضاف لفظ ‏(‏الأصول‏)‏ إلى أسماء العلوم، ويراد به حينئذٍ القواعد العامّة الّتي يتبعها أصحاب ذلك العلم في دراسته، والّتي تحكم طرق البحث والاستنباط في ذلك العلم‏.‏ وقد تكون تلك الأصول علماً مستقلاًّ‏.‏

فمن ذلك أصول التّفسير، وأصول الحديث، وأصول الفقه‏.‏

أمّا ‏(‏أصول الدّين‏)‏ - ويسمّى أيضاً علم العقائد، وعلم الكلام، والفقه الأكبر - فليس من هذا الباب، بل هو - كما قال صاحب كشف الظّنون -‏:‏ ‏(‏علمٌ يقتدر به على إثبات العقائد الدّينيّة بإيراد الحجج عليها، ودفع الشّبه عنها‏)‏‏.‏ وسمّي أصولاً لا من حيث إنّه قواعد استنباطٍ ودراسةٍ، بل من حيث إنّ الدّين يبتني عليه، فإنّ الإيمان باللّه تعالى أساس الإسلام بفروعه المختلفة‏.‏

أ - أصول التّفسير

18 - علم أصول التّفسير‏:‏ مجموعة القواعد الّتي ينبغي أن يسير عليها المفسّرون في فهم المعاني القرآنيّة، وتعرّف العبر والأحكام من الآيات‏.‏ أو - على ما يفهم من كلام ابن تيميّة - هو قواعد كلّيّةٌ تعين على فهم القرآن ومعرفة تفسيره ومعانيه، وعلى التّمييز في ذلك بين الحقّ والباطل‏.‏

ب - أصول الحديث

19 - ويسمّى أيضاً ‏(‏علوم الحديث‏)‏ ‏(‏ومصطلح الحديث‏)‏ وعلم ‏(‏دراية الحديث‏)‏ وعلم ‏(‏الإسناد‏)‏‏.‏ وهو مجموعة القواعد العامّة الّتي يعرف بها صحيح الحديث من سقيمه، ومقبوله من مردوده، وذلك بمعرفة أحوال الحديث سنداً ومتناً، لفظاً ومعنًى، وما يتبع ذلك من كيفيّة تحمّل الحديث وكتابته وآداب رواته وطالبيه‏.‏

ت - أصول الفقه

20 - وهو علمٌ يتعرّف منه كيفيّة استنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة من أدلّتها التّفصيليّة‏.‏ وموضوع علم أصول الفقه الأدلّة الشّرعيّة الكلّيّة من حيث كيفيّة استنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة منها، ومبادئه مأخوذةٌ من العربيّة وبعض العلوم الشّرعيّة كعلم الكلام والتّفسير والحديث، وبعض العلوم العقليّة‏.‏ والغرض منه تحصيل ملكة استنباط الأحكام الشّرعيّة الفرعيّة من أدلّتها الأربعة‏:‏ الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس‏.‏ وفائدته استنباط تلك الأحكام على وجه الصّحّة‏.‏ والدّاعي إلى وضعه‏:‏ أنّهم نظروا في تفاصيل الأحكام والأدلّة وعمومها، فوجدوا الأدلّة راجعةً إلى الكتاب والسّنّة والإجماع والقياس، ووجدوا الأحكام راجعةً إلى الوجوب والنّدب والإباحة والكراهة والحرمة، وتأمّلوا في كيفيّة الاستدلال بتلك الأدلّة على تلك الأحكام إجمالاً من غير نظرٍ إلى تفاصيلها إلاّ على سبيل التّمثيل‏.‏ فحصل لهم قضايا كلّيّةٌ متعلّقةٌ بكيفيّة الاستدلال بتلك الأدلّة على الأحكام إجمالاً، وبيان طرقه وشرائطه، ليتوصّل بكلٍّ من تلك القضايا إلى استنباط كثيرٍ من الأحكام الجزئيّة من أدلّتها التّفصيليّة، فضبطوها ودوّنوها وأضافوا إليها من اللّواحق، وسمّوا العلم المتعلّق بها أصول الفقه‏.‏ وأوّل من صنّف فيه الإمام الشّافعيّ رضي الله عنه‏.‏ والفرق بين الفقه وأصول الفقه‏:‏ أنّ الفقه معرفة الأحكام العمليّة المستمدّة من الأدلّة التّفصيليّة‏.‏ فقولهم الصّلاة واجبةٌ لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأقيموا الصّلاة‏}‏، والأمر للوجوب، يشتمل على حكمين‏:‏ أحدهما فقهيٌّ، والآخر أصوليٌّ أمّا قولهم‏:‏ الصّلاة واجبةٌ، فهي مسألةٌ فقهيّةٌ‏.‏

وأمّا قولهم‏:‏ الأمر للوجوب، فهو قاعدةٌ أصوليّةٌ‏.‏

أصل المسألة

انظر‏:‏ أصلٌ‏.‏

إصلاحٌ

التعريف

1 - الإصلاح لغةً‏:‏ نقيض الإفساد، والإصلاح‏:‏ التّغيير إلى استقامة الحال على ما تدعو إليه الحكمة‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذا المعنى‏.‏ ومن هذا التعريف يتبيّن أنّ كلمة ‏(‏إصلاحٌ‏)‏ تطلق على ما هو مادّيٌّ، وعلى ما هو معنويٌّ، فيقال‏:‏ أصلحت العمامة، وأصلحت بين المتخاصمين‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّرميم

2 - تطلق كلمة ترميمٍ على إصلاح نحو الحبل والدّار إذا فسد بعضها‏.‏ وهي أمورٌ مادّيّةٌ محضةٌ‏.‏ وإن أطلقت كلمة ‏(‏ترميمٌ‏)‏ على ما هو معنويٌّ فهو إطلاقٌ مجازيٌّ، يقال‏:‏ ‏(‏أحيا رميم الأخلاق‏)‏ من باب المجاز‏.‏ فالفرق بينهما أنّ الإصلاح أعمّ، لأنّه يطلق حقيقةً على المادّيّ والمعنويّ، ويكون في الغالب شاملاً، في حين أنّ التّرميم جزئيٌّ في الغالب‏.‏

ب - الإرشاد

3 - الإرشاد في اللّغة‏:‏ الدّلالة، ويستعمله الفقهاء بمعنى الدّلالة على الخير والمصلحة، سواءٌ أكانت دنيويّةً أم أخرويّةً‏.‏ ويطلق لفظ الإرشاد على التّبيين، ولا يلزم أن يلازم التّبيّن الإصلاح، في حين أنّ الإصلاح يتضمّن حصول الصّلاح‏.‏

ما يدخله الإصلاح وما لا يدخله

4 - التّصرّفات على، نوعين‏:‏

أ - تصرّفاتٌ هي حقوق اللّه تعالى، وهذه التّصرّفات إذا طرأ الخلل على شرطٍ من شروطها، أو ركنٍ من أركانها فإنّها لا يلحقها إصلاحٌ ألبتّة، كما إذا ترك المصلّي قراءة القرآن في صلاته، وترك الحاجّ الوقوف في عرفاتٍ، فإنّه لا سبيل لإصلاح هذه الصّلاة ولا ذلك الحجّ، كما هو مبيّنٌ في كتابي الصّلاة والحجّ من كتب الفقه‏.‏ أمّا إذا طرأ الخلل على غير ذلك فيها، فإنّها يلحقها الإصلاح، كإصلاح الصّلاة بسجود السّهو، وإصلاح الحجّ بالدّم في حال حدوث مخالفةٍ من مخالفات الإحرام مثلاً، ونحو ذلك‏.‏

ب - وتصرّفاتٌ هي حقوق العباد، وهي على نوعين‏:‏

1 - تصرّفاتٌ غير عقديّةٍ، كالإتلاف، والقذف، والغصب، ونحو ذلك‏.‏ وهذه إذا وقعت لا يلحقها إصلاحٌ ألبتّة، ولكن ذلك لا يمنع من أن يلحق الإصلاح الآثار المترتّبة عليها، وعلى هذا فإنّه إذا كان الضّرر من آثار الإتلاف مثلاً، فإنّ الضّرر يرفع بالضّمان، كما سيأتي‏.‏

2 - تصرّفاتٌ عقديّةٌ‏:‏ وهذه التّصرّفات إن كان الخلل طارئاً على أحد أركانها، حتّى يصبح العقد غير مشروعٍ بأصله ولا بوصفه، فإنّه لا يلحقه إصلاحٌ، كما هو مبيّنٌ في مصطلح ‏(‏بطلانٌ‏)‏‏.‏ أمّا إن كان الخلل طارئاً على الوصف دون الأصل، فإنّ الحنفيّة يقولون بلحاق الإصلاح هذا العقد، ويخالفهم الجمهور في ذلك، كما يأتي في مصطلح ‏(‏فسادٌ‏)‏‏.‏

الحكم الإجماليّ للإصلاح

5 - من استقراء كلام الفقهاء يتبيّن أنّ أقلّ درجات الإصلاح النّدب، كإصلاح المالك الشّيء المعار لاستمرار الانتفاع بالعاريّة، كما هو مبيّنٌ في كتاب العاريّة من كتب الفقه‏.‏ وقد يكون الإصلاح واجباً، كما هو الحال في سجود السّهو الواجب لإصلاح الخلل الّذي وقع في الصّلاة، كما هو مبيّنٌ في كتاب الصّلاة، باب سجود السّهو، وفي ضمان المتلفات، كما هو مبيّنٌ في كتاب الضّمان من كتب الفقه، والإصلاح بين الفئتين الباغيتين‏.‏ كما ذكر ذلك الفقهاء والمفسّرون في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما‏}‏‏.‏

وسائل الإصلاح ومواطن البحث

6 - من استقراء الأحكام الفقهيّة يتبيّن أنّ الإصلاح يتمّ بوسائل عديدةٍ منها‏:‏

أ - إكمال النّقص، فمن ترك شيئاً من أعضاء الوضوء دون أن يمسّه الماء يصلح وضوءه بغسل ذلك الجزء المتروك بالماء، بشروطٍ ذكرها الفقهاء في الوضوء، ومثل ذلك الغسل‏.‏ ومن ذلك وجوب إصلاح الشّيء المستأجر على المؤجّر، إن كان ذلك الخلل أو النّقص ممّا تتعطّل به المنافع، كما بيّن ذلك الفقهاء في كتاب الإجارة‏.‏

ب - التّعويض عن الضّرر‏:‏ ويتمثّل ذلك في وجوب الدّية على الجنايات، كما بيّن ذلك الفقهاء في كتاب الدّيات، وفي ضمان الإتلافات في كتاب الضّمان، وكما سبق في مصطلح ‏(‏إتلافٌ‏)‏‏.‏

ت - الزّكوات

كزكاة المال الّتي هي طهرةٌ للمزكّي وكفايةٌ للفقير، وزكاة الفطر الّتي هي طهرةٌ للصّائم وكفايةٌ للفقير‏.‏

ث - العقوبات

من حدودٍ وقصاصٍ وتعزيراتٍ وتأديبٍ، وكلّها شرعت لتكون وسيلة إصلاحٍ، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ولكم في القصاص حياةٌ يا أولي الألباب‏}‏‏.‏

ج - الكفّارات

فإنّها شرعت لإصلاح خللٍ في تصرّفاتٍ خاصّةٍ، ككفّارة اليمين، والظّهار، والقتل الخطأ، ونحو ذلك، كما هو معروفٌ في أبوابه‏.‏ ومنع التّصرّف بنزع اليد لإيقاف الضّرر‏:‏ وإيقاف الضّرر يعني الإصلاح‏.‏ ونزع اليد يكون إصلاحاً في أحوالٍ منها‏:‏ عزل القاضي، الّذي لا يحسن القضاء، وإنهاء حضانة الأمّ إذا تزوّجت، والحجر على، السّفيه، ونحو ذلك كما هو مبيّنٌ في أبوابه من كتب الفقه‏.‏

ح - الولاية والوصاية والحضانة

وهي ما شرعت إلاّ لإصلاح المولى عليه، أو إصلاح ماله، كما هو مبيّنٌ في كتاب النّكاح، وفي الحجر، وفي الحضانة من كتب الفقه‏.‏

خ - الوعظ

كوعظ الزّوجة الّتي يخاف نشوزها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏واللاّتي تخافون نشوزهنّ فعظوهنّ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الآية‏.‏ ويذكر الفقهاء ذلك في كتاب النّكاح باب العشرة، وكالأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر عموماً، وتفصيل ذلك في أبواب الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر في كتب الآداب الشّرعيّة‏.‏

د - التّوبة

وهي تصلح شأن الإنسان، وتمحو الذّنب الّذي ارتكبه، وتفصيل الكلام عنها في باب القذف، وفي كتب الآداب الشّرعيّة‏.‏

ذ - إحياء الموات

ويتمّ إصلاح الأرض بإحياء الموات فيها، كما هو مفصّلٌ في كتاب إحياء الموات في كتب الفقه‏.‏ وفي الجملة‏:‏ كلّ ما يؤدّي إلى الكفّ عن المعاصي، أو إلى فعل الخير، فهو إصلاحٌ‏.‏

أصمّ

التعريف

1 - الأصمّ‏:‏ من به صممٌ، والصّمم‏:‏ فقدان السّمع، ويأتي وصفاً للأذن وللشّخص، فيقال‏:‏ رجلٌ أصمّ، وامرأةٌ صمّاء، وأذنٌ صمّاء، والجمع صمٌّ‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن المعنى اللّغويّ‏.‏

الحكم الإجماليّ

يتعلّق بالأصمّ أو الصّمّاء عدّة أحكامٍ أهمّها ما يلي‏:‏

في العبادات

2 - هل يجتزأ بالصّمّ في العدد المشروط لسماع خطبة الجمعة ‏؟‏ على اختلاف المذاهب، فالجمهور على أنّه يجتزأ بهم، خلافاً للشّافعيّة حيث اشترطوا ألاّ يكون في الحدّ الأدنى من هو أصمّ، ويجتزئ الحنابلة بهم إن لم يكونوا كلّهم كذلك‏.‏ ويرى الحنابلة والشّافعيّة صحّة الصّلاة خلف الأصمّ، وإمامته صحيحةٌ‏.‏ ولا ينبغي ذلك عند المالكيّة بالنّسبة للإمام الرّاتب، لأنّه قد يسهو فيسبّح له فلا يسمع، فيكون ذلك سبباً لإفساد الصّلاة‏.‏

في المعاملات

أ - قضاء الأصمّ وشهادته

3 - لا يجوز أن يتولّى الأصمّ القضاء، وإذا ولّي يجب عزله، لأنّ في توليته ضياع حقوق النّاس، وهذا باتّفاقٍ‏.‏ أمّا شهادته فما يتّصل بالسّمع كالأقوال فلا تقبل شهادته فيه، وأمّا ما يراه من الأفعال كالأكل والضّرب، فهذا تقبل شهادته فيه‏.‏

ب - الجناية على السّمع

4 - تجب الدّية بذهاب منفعة السّمع بسبب الجناية عليه، لحديث‏:‏ «وفي السّمع الدّية»، ولأنّ عمر رضي الله عنه قضى في رجلٍ ضرب رجلاً، فذهب سمعه وبصره ونكاحه وعقله، بأربع دياتٍ والرّجل حيٌّ‏.‏ هذا مع اختلاف الفقهاء بين القصاص وعدمه‏.‏

مواطن البحث

5 - يتعلّق بالأصمّ أحكامٌ متعدّدةٌ، مثل حكم سجود التّلاوة بالنّسبة للأصمّ، سواءٌ كان تالياً أو مستمعاً، ومثل عقود الأصمّ، من نكاحٍ وبيعٍ وغير ذلك، وتنظر في مواضعها‏.‏

أصيلٌ

التعريف

1 - الأصيل في اللّغة مشتقٌّ من أصلٍ، وأصل الشّيء أساسه وما يستند وجود ذلك الشّيء إليه، ويطلق الأصيل على الأصل‏.‏ ويأتي بمعنى الوقت بعد العصر إلى غروب الشّمس‏.‏ ولا يخرج استعمال الفقهاء عن هذين المعنيين اللّغويّين، فيطلقونه في الكفالة والحوالة على المطالب ابتداءً بالحقّ، وفي الوكالة على من يملك التّصرّف ابتداءً‏.‏

الحكم الإجماليّ

2 - يختلف الحكم تبعاً للاستعمالات الفقهيّة، فالحوالة توجب براءة الأصيل عند جمهور الفقهاء لأنّ معناها نقل الحقّ، وذلك لا يتحقّق إلاّ بفراغ ذمّة الأصيل، وأمّا الكفالة فلا توجب براءة الأصيل، لأنّ معناها ضمّ ذمّةٍ إلى ذمّةٍ في المطالبة، وأمّا الوكالة ففيها حلول الوكيل محلّ الأصيل في الجملة، وتفصيل كلّ من ذلك في بابه‏.‏

أضاحي

انظر‏:‏ أضحيّةٌ‏.‏

إضافةٌ

التعريف

1 - الإضافة‏:‏ مصدرٌ فعله أضاف، على وزن أفعل‏.‏ ومن معاني الإضافة في اللّغة‏:‏ ضمّ الشّيء إلى الشّيء، أو إسناده أو نسبته‏.‏ والإضافة عند النّحاة‏:‏ ضمّ اسمٍ إلى اسمٍ على وجهٍ يفيد تعريفاً أو تخصيصاً‏.‏ والإضافة عند الحكماء هي‏:‏ نسبةٌ متكرّرةٌ، بحيث لا تعقل إحداهما إلاّ مع الأخرى، كالأبوّة والبنوّة‏.‏ أمّا الإضافة في اصطلاح الفقهاء‏:‏ فلا تخرج في معناها عن المعاني اللّغويّة السّابقة، وهي الإسناد والنّسبة وضمّ الشّيء إلى الشّيء‏.‏

2 - ويقصد بإضافة الحكم إلى الزّمن المستقبل إرجاء آثار التّصرّف إلى الزّمن المستقبل الّذي حدّده المتصرّف، فالإضافة تؤخّر ترتّب الحكم على السّبب إلى الوقت الّذي أضيف إليه السّبب، فيتحقّق السّبب المضاف قبل تحقّق الوقت الّذي أضيف إليه بلا مانعٍ‏.‏ وعدم المانع وهو التّكلّم بالسّبب بلا تعليقٍ يقتضي تحقّقه، غاية الأمر أنّه يترتّب على الإضافة تأخير الحكم المسبّب إلى وجود الوقت المعيّن الّذي هو كائنٌ لا محالة، إذ الزّمان من لوازم الوجود الخارجيّ، فالإضافة إليه إضافةٌ إلى ما قطع بوجوده، وفي مثله يكون الغرض من الإضافة تحقيق المضاف إليه‏.‏ وإذا كانت الإضافة بمعنى الضّمّ فإنّها حينئذٍ تكون بمعنى الزّيادة، فتحال أحكامها حينئذٍ إلى مصطلح ‏(‏زيادةٌ‏)‏‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - التّعليق‏:‏

3 - التّعليق عند الفقهاء ربط حصول مضمون جملةٍ بحصول مضمون جملةٍ أخرى‏.‏ وبعض صور التّعليق تسمّى يميناً مجازاً‏.‏ هذا، وقد ذكر ابن نجيمٍ في فتح الغفّار الفرق من وجهين بين التّعليق والإضافة الّتي بمعنى إسناد الحكم إلى زمنٍ آخر، ولكن لم يسلم واحدٌ منهما من الاعتراض‏.‏

أحدهما‏:‏ أنّ التّعليق يمينٌ، وهي إذا كان المقصود بها البرّ أفادت انتفاء المعلّق، ولا يفضي إلى الحكم، أمّا الإضافة فهي لثبوت حكم السّبب في وقته، لا لمنعه، فيتحقّق السّبب بلا مانعٍ‏.‏ إذ الزّمان من لوازم الوجود‏.‏

والفرق الثّاني‏:‏ أنّ الشّرط على خطر ‏(‏احتمال الوجود والعدم‏)‏ ولا خطر في الإضافة‏.‏ ويرجع إلى كتب الأصول للاعتراضات على هذين الفرقين، والأجوبة عنها‏.‏

ب - التّقييد ‏:‏

4 - التّقييد في العقود هو‏:‏ التزام حكمٍ في التّصرّف القوليّ، لا يستلزمه ذلك التّصرّف في حال إطلاقه‏.‏

ج - الاستثناء ‏:‏

5 - الاستثناء‏:‏ قولٌ ذو صيغٍ مخصوصةٍ محصورةٍ، دالٌّ على أنّ المذكور فيه لم يردّ بالقول الأوّل‏.‏ والفرق بينه وبين الإضافة‏:‏ أنّ الحكم في الاستثناء يثبت في الحال، فلو قال المقرّ‏:‏ لفلانٍ عليّ عشرةٌ إلاّ ثلاثاً فإنّه يكون مقرّاً بسبعٍ، بخلاف الإضافة، فإنّ الحكم فيها لا يثبت إلاّ عند وجود الزّمن الّذي أضيف إليه الحكم، كما لو قال‏:‏ أنت طالقٌ أوّل الشّهر، فإنّها لا تطلق إلاّ إذا جاء رأس الشّهر‏.‏ أمّا الاستثناء فإنّ تأخير المستثنى عن المستثنى منه ‏(‏أي الفصل‏)‏ لغير عذرٍ يبطله‏.‏

د - التّوقّف ‏:‏

6 - المراد بالتّوقّف هنا‏:‏ عدم نفاذ حكم التّصرّف الصّادر من ذي أهليّةٍ لكن لا ولاية له فيه‏.‏ وهو إنّما يكون في العقود القابلة له، كالبيع والإجارة والنّكاح، فإذا باع الفضوليّ أو اشترى فعند القائلين بصحّة تصرّفه يكون العقد موقوفاً، لا ينفذ إلاّ بعد إجازة المالك في البيع، والمشتري له في الشّراء‏.‏ هذا، وإنّ بين العقود المضافة والعقود الموقوفة شبهاً وفرقاً، فأمّا الشّبه‏:‏ فهو أنّ كلاًّ منهما يوجد عند وجود الصّيغة، مع تأخّر الحكم إلى الزّمن الّذي أضيف إليه في العقد المضاف، أو إلى إجازة المالك في العقد الموقوف‏.‏ وأمّا الفرق فمن ثلاثة أوجهٍ‏:‏

أوّلها‏:‏ أنّ تراخي الحكم عن الصّيغة في العقد المضاف نشأ من الصّيغة نفسها، لأنّ الإيجاب فيها مضافٌ إلى زمنٍ مستقبلٍ، أمّا تراخي الحكم في العقد الموقوف فليس مرجعه الصّيغة، لأنّها منجّزةٌ، وإنّما مرجعه صدور التّصرّف ممّن لا ولاية له في العقد‏.‏

ثانيها‏:‏ أنّ الحكم في العقد الموقوف ينفّذ بعد الإجازة مستنداً إلى وقت صدور التّصرّف، لأنّ الإجازة اللاّحقة فيه كالإذن السّابق‏.‏ بخلاف العقد المضاف، فإنّ الحكم فيه لا يثبت إلاّ عند مجيء الزّمن الّذي أضيف إليه الحكم‏.‏

ثالثها‏:‏ أنّ العقد المضاف يترتّب عليه الحكم في الزّمن الّذي أضيف إليه الإيجاب، ما دام صحيحاً‏.‏ بخلاف العقد الموقوف، فإنّه متردّدٌ بين الإجازة والرّدّ فيما إذا لم يجزه من له الولاية‏.‏ فبيع الفضوليّ مثلاً لا ينفذ إذا لم يجزه المالك‏.‏

هـ - التّعيين ‏:‏

7 - التّعيين معناه‏:‏ التّحديد والاختيار، فمن طلّق إحدى نسائه، ولم يعيّن المطلّقة منهنّ، فإنّه يلزمه التّعيين عند المطالبة به‏.‏ فلو قال عند التّعيين‏:‏ هذه المطلّقة وهذه، أو بل هذه، أو ثمّ هذه، تعيّنت الأولى، لأنّ التّعيين إنشاء اختيارٍ، لا إخبارٌ عن سابقٍ، والبيان عكسه، فهناك شبهٌ بين التّعيين والإضافة من حيث تراخي حكم التّصرّف إلى التّعيين، أو الزّمن المضاف إليه‏.‏ والتّعيين يأتي في خصال كفّارة اليمين فإنّ من حنث، فخيّر في الكفّارة بين الإعتاق والإطعام والكسوة، فلا ينتقل إلى الصّوم إلاّ بعد عدم القدرة على خصلةٍ من تلك الخصال الثّلاثة‏.‏ وعند القدرة على خصلةٍ منها يلزمه أن يعيّنها‏.‏

شروط الإضافة

8 - يشترط لصحّة الإضافة ثلاثة شروطٍ‏:‏

الأوّل‏:‏ صدورها من أهلها، وهو شرطٌ مشتركٌ في جميع العقود والتّصرّفات‏.‏

الثّاني‏:‏ مقارنتها للعقد أو التّصرّف‏.‏

الثّالث‏:‏ مصادفتها محلّها المشروع من العقود وغيرها‏.‏ وسيأتي تفصيل هذين الشّرطين‏.‏

أنواع الإضافة

9 - الإضافة نوعان‏:‏ أحدهما‏:‏ الإضافة إلى الوقت‏.‏

وثانيهما‏:‏ الإضافة إلى الشّخص‏.‏ ومعنى الإضافة إلى الوقت‏:‏ تأخير الآثار المترتّبة على العقد إلى حلول الوقت الّذي أضيف إليه ذلك العقد، فإنّ من العقود ما يقبل الإضافة إلى الوقت، ومنها ما لا يقبل‏.‏ ومعنى الإضافة إلى الشّخص، أن ينسب حكم التّصرّف إلى شخصٍ معلومٍ‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ الإضافة إلى الوقت

10 - الإضافة تتبع طبيعة التّصرّفات، ومن التّصرّفات ما يضاف إلى الوقت، ومنها ما لا يضاف إليه‏.‏ فالتّصرّفات الّتي تصحّ إضافتها إلى الوقت هي‏:‏ الطّلاق، وتفويضه، والخلع، والإيلاء، والظّهار، واليمين، والنّذر، والعتق، والإجارة، والمعاملة، والإيصاء، والوصيّة، والقضاء، والمضاربة، والكفالة، والوقف، والمزارعة، والوكالة‏.‏ وهناك تصرّفاتٌ لا تصحّ إضافتها إلى الوقت كالنّكاح، والبيع، وغيرهما‏.‏

التّصرّفات الّتي تقبل الإضافة إلى الوقت‏:‏

الطّلاق

11 - ذهب جمهور الفقهاء إلى أنّه إن أضاف الطّلاق إلى الماضي وقع في الحال‏.‏ وللشّافعيّة قولٌ ضعيفٌ أنّه يلغو‏.‏ وذهب الحنابلة إلى وقوع الطّلاق إن نواه، وإلاّ فهو لغوٌ‏.‏ أمّا إضافة الطّلاق إلى الزّمان المستقبل فالجمهور على وقوعه في أوّل الوقت الّذي أضيف إليه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إذا أضيف إلى وقتٍ محقّق الوقوع وقع في الحال، لأنّ إضافة الطّلاق إلى الزّمن المستقبل أو المحقّق مجيئه تجعل النّكاح مؤقّتاً، فحينئذٍ يشبه نكاح المتعة، وهو حرامٌ، فينجّز الطّلاق‏.‏

إضافة تفويض الطّلاق للمستقبل

12 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو قولٌ قديمٌ للشّافعيّة ‏(‏بناءً على قولٍ بعدم اشتراط الفوريّة في تفويض الطّلاق إلى المرأة، وأنّه بمعنى التّوكيل‏)‏ إلى أنّه يجوز إضافة تفويض الطّلاق إلى الزّمن المستقبل‏.‏ والقول الجديد عند الشّافعيّة أنّه يشترط فيه الفوريّة، فلا يحتمل الإضافة إلى الوقت بناءً على أنّ التّفويض بمعنى التّمليك‏.‏

إضافة الخلع إلى الوقت

13 - اتّفق العلماء على جواز إضافة الخلع إلى الوقت‏.‏ فإن طلّقها قبل الوقت، وكان يراد به التّعجيل وقع الطّلاق بائناً، واستحقّ الزّوج العوض المتّفق عليه‏.‏ وأمّا إذا طلّق بعد مضيّ الوقت الّذي أضيف إليه الخلع فإنّه يقع الطّلاق، ولا شيء للزّوج‏.‏ وللفقهاء تفصيلٌ في كون هذا الطّلاق رجعيّاً أو بائناً، ينظر في مصطلح ‏(‏خلعٌ‏)‏‏.‏

إضافة الإيلاء إلى الوقت

14 - الإيلاء يقبل الإضافة إلى الوقت عند جمهور الفقهاء، لأنّ الإيلاء يمينٌ، واليمين يحتمل التّعليق بالشّرط والإضافة إلى الوقت‏.‏

إضافة الظّهار إلى الوقت

15 - مذهب الحنفيّة والحنابلة، وعلى قولٍ ضعيفٍ عند المالكيّة، أنّه يصحّ إضافة الظّهار إلى الوقت‏.‏ والرّاجح عند المالكيّة أنّه لا يصحّ إضافته إلى الوقت‏.‏ ولم نجد للشّافعيّة رأياً في هذه المسألة‏.‏

إضافة اليمين إلى الوقت

16 - اتّفق الفقهاء على أنّ اليمين يجوز إضافتها إلى الوقت، مع تفصيلٍ ذكروه في كتبهم‏.‏ وينظر في مصطلح ‏(‏أيمانٌ‏)‏‏.‏

إضافة النّذر إلى الوقت

17 - اتّفق الفقهاء على جواز إضافة النّذر إلى وقتٍ مستقبلٍ، كأن يقول‏:‏ للّه عليّ أن أصوم شهر رجبٍ، أو أصلّي ركعتين يوم كذا، على تفصيلٍ ينظر في ‏(‏باب النّذر‏)‏‏.‏

إضافة الإجارة إلى الوقت

18 - ذهب الفقهاء إلى جواز إضافة الإجارة إلى الزّمن المستقبل في الجملة‏.‏ وتفصيل ذلك في مصطلح ‏(‏إجارةٌ‏)‏‏.‏

إضافة المضاربة إلى المستقبل

19 - أجاز الحنفيّة إضافة المضاربة إلى الوقت، وهو الصّحيح عند الحنابلة‏.‏ وذهب المالكيّة والشّافعيّة إلى عدم الجواز‏.‏ وتفصيله في مصطلح ‏(‏مضاربةٌ‏)‏‏.‏

إضافة الكفالة

20 - أجاز الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إضافة الكفالة، سواءٌ أكانت في المال أم في البدن، لأنّها تبرّعٌ من غير عوضٍ، وضرب أجلٍ لها لا يخلّ بالمقصود، فصحّت كالنّذر‏.‏ وعند الشّافعيّة لا تجوز إضافتها أو تعليقها إن كانت في المال اتّفاقاً، وكذلك في البدن على الأصحّ، ومقابل الأصحّ عندهم أنّها تجوز وتفصيل آراء الفقهاء في ذلك في مصطلح ‏(‏كفالةٌ‏)‏‏.‏

إضافة الوقف

21 - يجوز عند الحنفيّة والمالكيّة إضافة الوقف إلى الوقت‏.‏ والشّافعيّة والحنابلة يجيزون إضافته، إلاّ أنّ الظّاهر عند الشّافعيّة أنّهم يجيزون إضافة الوقف إذا أشبه التّحرير، كما لو جعل داره مسجداً إذا جاء رمضان، حيث جعلها محرّرةً من كلّ ملكٍ إلاّ للّه عزّ وجلّ‏.‏

إضافة المزارعة والمعاملة

22 - يرى الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة أنّ إضافة المعاملة ‏(‏المساقاة‏)‏ إلى المستقبل جائزةٌ‏.‏ وأمّا المزارعة، فالحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة يرون قبولها الإضافة‏.‏ لأنّ المزارعة والمعاملة عندهم في معنى الإجارة، والإجارة تصحّ إضافتها إلى الوقت فكذلك المزارعة والمعاملة‏.‏ ولم يتعرّض المالكيّة إلى ذكر المدّة فيها‏.‏ وصرّح الحنابلة بأنّ المزارعة والمساقاة لا يفتقران للتّصريح بمدّةٍ يحصل الكمال فيها، بل لو زارعه أو ساقاه دون أن يذكر مدّةً جاز، لأنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم لم يضرب لأهل خيبر مدّةً‏.‏

إضافة الوصيّة والإيصاء إلى الوقت

23 - الوصيّة والإيصاء بمعنًى واحدٍ في اللّغة، ويفرّق الفقهاء بينهما في الاستعمال، فالإيصاء معناه أن يعهد إلى غيره، بأن يقوم مقامه بعد موته، والوصيّة تصرّفٌ مضافٌ إلى ما بعد الموت تستعمل غالباً في الأموال‏.‏ ويرى الفقهاء أنّ الوصيّة والإيصاء يقبلان الإضافة إلى الوقت‏.‏

إضافة الوكالة إلى الوقت

24 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة، وهو ما يفهم من تفريعات الشّافعيّة، إلى جواز إضافة الوكالة إلى الوقت‏.‏ قال صاحب البدائع‏:‏ ركن التّوكيل قد يكون مضافاً إلى وقتٍ، بأن يقول وكّلتك في بيع هذه الدّار غداً، ويصير وكيلاً في الغد فما بعده، ولا يكون وكيلاً قبل الغد، لأنّ التّوكيل إطلاق التّصرّف، والإطلاقات ممّا تحتمل التّعليق بالشّرط والإضافة إلى الوقت، كالطّلاق والعتاق‏.‏

العقود الّتي لا تصحّ إضافتها إلى المستقبل

25 - اتّفق الفقهاء على أنّ عقود البيع، والنّكاح، والصّلح على مالٍ، والرّجعة، والقسمة لا تقبل الإضافة إلى المستقبل‏.‏ ومثلها الشّركة عند الحنفيّة، ولم يعثر للآخرين على قولٍ فيها‏.‏ واستثنى المالكيّة من قاعدة عدم قبول النّكاح للإضافة الصّورة التّالية‏:‏ لو أضاف الأب نكاح ابنته إلى موته، وكان مريضاً مرضاً مخوفاً أم لا، طال أو قصر فيصحّ النّكاح إذا مات منه، لأنّه من وصايا المسلمين‏.‏ وكذلك عقد الهبة لا يقبل الإضافة عند جمهور الفقهاء، خلافاً للمالكيّة في بعض الصّور، ذكروها في موضعها‏.‏

وللتّفصيل وبيان الأدلّة في كلٍّ من هذه الموضوعات يرجع إلى مصطلحاتها‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ الإضافة إلى الشّخص

26 - التّصرّفات إمّا أن يضيفها مباشرها إلى نفسه، وإمّا أن يضيفها إلى غيره‏.‏

أ - إضافة التّصرّف إلى المباشر نفسه‏:‏

27 - الأصل أن يضيف مباشر التّصرّف ذلك التّصرّف إلى نفسه، وأن يباشر العقد من يملك السّلعة، وكذلك الطّلاق، فإنّ الزّوج هو الّذي يملكه، فلا بدّ أن يصدر منه، فإن صدر عن غيره بغير إذنه فإنّه لا يقع‏.‏

ب - إضافة المباشر التّصرّف إلى غيره‏:‏

28 - إذا أضاف المباشر التّصرّف إلى غيره، فإمّا أن تكون الإضافة بإذن ذلك الغير أو بغير إذنه، فإن أضيف بإذن ذلك الغير كالوكالة، فإنّه يصحّ، فمن وكّل غيره في بيعٍ أو طلاقٍ أو إيصال هبةٍ أو وديعةٍ، فإنّ التّوكيل يقوم مقام الموكّل فيما وكّل به، وتصرّفات الوكيل معتبرةٌ‏.‏ وأمّا إن أضيف التّصرّف إلى الغير غير إذنه فإنّه ينظر إلى ذلك التّصرّف، فإن كان لا يفتقر إلى إذن الغير فإنّه يصحّ، وذلك كتصرّف الوصيّ في شأن الموصى عليهم، فإنّ من أوصى غيره ليقوم مقامه بعد موته في رعاية أبنائه لا يحتاج الوصيّ في تصرّفاته إلى إذن الموصى عليهم، لأنّهم تحت وصايته، فتصرّفاته - أي الوصيّ - تنفذ عليهم عملاً بكلام الموصي‏.‏ ومثل الوصيّة في هذا المعنى الولاية‏.‏ فإنّ تصرّفات الوليّ تنفذ على من له الولاية عليهم ولا يفتقر إلى إذنهم‏.‏ وكذلك القيّم الّذي يعينه القاضي، فإنّ تصرّفاته صحيحةٌ، ولا يفتقر إلى إذن من له القوامة عليه‏.‏

29 - وأمّا إن كان يفتقر إلى إذن الغير فهو تصرّف الفضوليّ الّذي يتصرّف بلا إذنٍ ولا وصايةٍ ولا ولايةٍ ولا قوامة في بيعٍ وغيره‏.‏ وفي صحّة تصرّفات الفضوليّ خلافٌ بين الفقهاء‏:‏ فذهب الحنفيّة والمالكيّة - على قولٍ عندهم - والشّافعيّ في القديم إلى أنّ الفضوليّ إذا تصرّف ببيعٍ أو شراءٍ فإنّ تصرّفه هذا موقوفٌ على إجازة المالك، فإن أجازه نفذ وإلاّ فلا‏.‏ وذهب المالكيّة - على قولٍ عندهم - والشّافعيّ في الجديد، والحنابلة إلى أنّ تصرّف الفضوليّ بالبيع أو الشّراء باطلٌ، حتّى وإن أجازه المالك‏.‏ واستثنى الحنابلة ما لو اشترى لغيره شيئاً في ذمّته بغير إذنه، فيصحّ إن لم يسمّ المشتري من اشترى له في العقد، بأن قال‏:‏ اشتريت هذا، ولم يقل‏:‏ لفلانٍ، فيصحّ العقد، سواءٌ نقد المشتري الثّمن من مال الّذي اشترى له، أو من مال نفسه، أو لم ينقده بالكلّيّة، لأنّه متصرّفٌ في ذمّته، وهي قابلةٌ للتّصرّف، والّذي نقده إنّما هو عوضٌ عمّا في الذّمّة‏.‏ فإن سمّاه في العقد لم يصحّ إن لم يكن أذن‏.‏ وذهب المالكيّة - في قولٍ ثالثٍ عندهم - إلى أنّ تصرّف الفضوليّ بالبيع أو الشّراء باطلٌ في العقار وجائزٌ في العروض، أي يصحّ تصرّفه في المنقولات دون غيرها كالأراضي والبيوت‏.‏

إضجاعٌ

التعريف

1 - الإضجاع مصدر أضجع، يقال‏:‏ أضجعته إضجاعاً‏:‏ وضعت جنبه بالأرض‏.‏ وهو كذلك في الاصطلاح‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - الاضطجاع‏:‏

2 - الاضطجاع وضع الإنسان جنبه على الأرض بنفسه، فهو لازمٌ، والاضطجاع متعدٍّ‏.‏ وعلى هذا يكون الفرق بينه وبين الإضجاع، أنّ الإضجاع يقال فيمن ضجع نفسه‏.‏ أمّا الإضجاع فإنّه يكون بفعل الغير له‏.‏ والاضطجاع في السّجود أن يتضامّ فيه ولا يجافي بطنه عن فخذيه‏.‏

ب - استلقاءٌ‏:‏

3 - الاستلقاء‏:‏ النّوم على القفا‏.‏

الحكم الإجماليّ ومواطن البحث

4 - يفصّل الفقهاء في ‏(‏الذّبائح‏)‏ حكم إضجاع الذّبيحة وإراحتها، ويتّفقون على أنّ هذا مندوبٌ إليه، لما ورد فيه من آثارٍ، ولأنّ فيه إراحةً للذّبيحة وتخفيفاً عنها‏.‏ كما يتكلّم الفقهاء على الإضجاع في الجنائز عند احتضار الشّخص، وعند دفنه حيث يسنّ إضجاعه على جنبه الأيمن جهة القبلة، وهذا موضع اتّفاقٍ بين الفقهاء، لما ورد في ذلك من الآثار‏.‏ ‏(‏ر‏:‏ جنازةٌ‏)‏‏.‏

أضحيّةٌ

التعريف

1 - الأضحيّة بتشديد الياء وبضمّ الهمزة أو كسرها، وجمعها الأضاحيّ بتشديد الياء أيضاً، ويقال لها‏:‏ الضّحيّة بفتح الضّاد وتشديد الياء، وجمعها الضّحايا، ويقال لها أيضاً‏:‏ الأضحاة بفتح الهمزة وجمعها الأضحى، وهو على التّحقيق اسم جنسٍ جمعيٍّ، وبها سمّي يوم الأضحى، أي اليوم الّذي يضحّي فيه النّاس‏.‏ وقد عرّفها اللّغويّون بتعريفين‏:‏

أحدهما‏:‏ الشّاة الّتي تذبح ضحوةً، أي وقت ارتفاع النّهار والوقت الّذي يليه، وهذا المعنى نقله صاحب اللّسان عن ابن الأعرابيّ‏.‏

وثانيهما‏:‏ الشّاة الّتي تذبح يوم الأضحى، وهذا المعنى ذكره صاحب اللّسان أيضاً‏.‏ أمّا معناها في الشّرع‏:‏ فهو ما يذكّى تقرّباً إلى اللّه تعالى في أيّام النّحر بشرائط مخصوصةٍ‏.‏ فليس، من الأضحيّة ما يذكّى لغير التّقرّب إلى اللّه تعالى، كالذّبائح الّتي تذبح للبيع أو الأكل أو إكرام الضّيف، وليس منها ما يذكّى في غير هذه الأيّام، ولو للتّقرّب إلى اللّه تعالى، وكذلك ما يذكّى بنيّة العقيقة عن المولود، أو جزاء التّمتّع أو القران في النّسك، أو جزاء ترك واجبٍ أو فعل محظورٍ في النّسك، أو يذكّى بنيّة الهدي كما سيأتي‏.‏

الألفاظ ذات الصّلة

أ - القربان ‏:‏

2 - القربان‏:‏ ما يتقرّب به العبد إلى ربّه، سواءٌ أكان من الذّبائح أم من غيرها‏.‏ والعلاقة العامّة بين الأضحيّة وسائر القرابين أنّها كلّها يتقرّب بها إلى اللّه تعالى، فإن كانت القرابين من الذّبائح كانت علاقة الأضحيّة بها أشدّ، لأنّها يجمعها كونها ذبائح يتقرّب بها إليه سبحانه، فالقربان أعمّ من الأضحيّة‏.‏

ب - الهدي ‏:‏

3 - الهدي‏:‏ ما يذكّى من الأنعام في الحرم في أيّام النّحر لتمتّعٍ أو قرانٍ، أو ترك واجبٍ من واجبات النّسك، أو فعل محظورٍ من محظورات النّسك، حجّاً كان أو عمرةً، أو لمحض التّقرّب إلى اللّه تعالى تطوّعاً‏.‏ ويشترك الهدي مع الأضحيّة في أنّ كلاًّ منهما ذبيحةٌ، ومن الأنعام، وتذبح في أيّام النّحر، ويقصد بها التّقرّب إلى اللّه تعالى‏.‏ ويفترق الهدي ذو السّبب عن الأضحيّة افتراقاً ظاهراً، فإنّ الأضحيّة لا تقع عن تمتّعٍ ولا قرانٍ، ولا تكون كفّارةً لفعلٍ محظورٍ أو ترك واجبٍ‏.‏ وأمّا الهدي الّذي قصد به التّقرّب المحض فإنّه يشتبه بالأضحيّة اشتباهاً عظيماً، لا سيّما أضحيّة المقيمين بمنًى من أهلها ومن الحجّاج، فإنّها ذبيحةٌ من الأنعام ذبحت في الحرم في أيّام النّحر تقرّباً إلى اللّه تعالى، وكلّ هذه الصّفات صفاتٌ للهدي فلا يفرّق بينهما إلاّ بالنّيّة، فما نوي به الهدي كان هدياً، وما نوي به التّضحية كان أضحيّةً‏.‏ فإن قيل‏:‏ إنّ النّيّة ليست نيّة ألفاظٍ، وإنّما هي معانٍ، فما هو المعنى الّذي يخطر ببال النّاوي، حين ينوي الهدي، وحين ينوي الأضحيّة حتّى تكون النّيّة فارقةً بينهما ‏؟‏ فالجواب‏:‏ أنّ ناوي الهدي يخطر بباله الإهداء إلى الحرم وتكريمه، وناوي الأضحيّة يخطر بباله الذّبح المختصّ بالأيّام الفاضلة من غير ملاحظة الإهداء إلى الحرم‏.‏ هذا، والمالكيّة يرون أنّ الحاجّ لا يضحّي كما سيأتي، فيكون الفرق عندهم بين هدي التّطوّع والأضحيّة ظاهراً، فإنّ ما يقوم به الحاجّ يكون هدياً، وما يقوم به غير الحاجّ يكون أضحيّةً‏.‏

ج - العقيقة ‏:‏

4 - العقيقة ما يذكّى من النّعم شكراً للّه تعالى على ما أنعم به، من ولادة مولودٍ، ذكراً كان أو أنثى، ولا شكّ أنّها تخالف الأضحيّة الّتي هي شكرٌ على نعمة الحياة، لا على الإنعام بالمولود، فلو ولد لإنسانٍ مولودٌ في عيد الأضحى فذبح عنه شكراً على إنعام اللّه بولادته كانت الذّبيحة عقيقةً‏.‏ وإن ذبح عنه شكراً للّه تعالى على إنعامه على المولود نفسه بالوجود والحياة في هذا الوقت الخاصّ، كانت الذّبيحة أضحيّةً‏.‏

د - الفرع والعتيرة ‏:‏

5 - الفرع بفتح الفاء والرّاء، ويقال له الفرعة‏:‏ أوّل نتاج البهيمة، كان أهل الجاهليّة يذبحونه لطواغيتهم، رجاء البركة في الأمّ وكثرة نسلها، ثمّ صار المسلمون يذبحونه للّه تعالى‏.‏ والعتيرة بفتح العين‏:‏ ذبيحةٌ كان أهل الجاهليّة يذبحونها في العشر الأول من رجبٍ لآلهتهم ويسمّونها العتر ‏(‏بكسرٍ فسكونٍ‏)‏ والرّجيبة أيضاً، ثمّ صار المسلمون يذبحونها للّه تعالى من غير وجوبٍ ولا تقيّدٍ بزمنٍ‏.‏ وعلاقة الأضحيّة بهما أنّهما يشتركان معها في أنّ الجميع ذبائح يتقرّب بها إلى اللّه عزّ وجلّ، والفرق بينها وبينهما ظاهرٌ‏.‏ فإنّ الفرع يقصد به شكراً للّه تعالى على أوّل نتاجٍ تنتجه النّاقة وغيرها ورجاء البركة فيها، والعتيرة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى وقت ذبحها‏.‏ والأضحيّة يقصد بها شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة إلى حلول الأيّام الفاضلة من ذي الحجّة الحرام‏.‏ مشروعيّة الأضحيّة ودليلها‏:‏

6 - الأضحيّة مشروعةٌ إجماعاً بالكتاب والسّنّة‏:‏ أمّا الكتاب فقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فصلّ لربّك وانحر‏}‏ قيل في تفسيره‏:‏ صلّ صلاة العيد وانحر البدن‏.‏ وأمّا السّنّة فأحاديث تحكي فعله صلى الله عليه وسلم لها، وأخرى تحكي قوله في بيان فضلها والتّرغيب فيها والتّنفير من تركها‏.‏ فمن ذلك ما صحّ من حديث أنس بن مالكٍ رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ «ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين، ذبحهما بيده، وسمّى وكبّر، ووضع رجله على صفاحهما»‏.‏ وأحاديث أخرى سيأتي بعضها منها قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا»‏.‏ وقد شرعت التّضحية في السّنة الثّانية من الهجرة النّبويّة، وهي السّنة الّتي شرعت فيها صلاة العيدين وزكاة المال‏.‏ أمّا حكمة مشروعيّتها، فهي شكراً للّه تعالى على نعمة الحياة، وإحياء سنّة سيّدنا إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام حين أمره اللّه عزّ اسمه بذبح الفداء عن ولده إسماعيل عليه الصلاة والسلام في يوم النّحر، وأن يتذكّر المؤمن أنّ صبر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وإيثارهما طاعة اللّه ومحبّته على محبّة النّفس والولد كانا سبب الفداء ورفع البلاء، فإذا تذكّر المؤمن ذلك اقتدى بهما في الصّبر على طاعة اللّه وتقديم محبّته عزّ وجلّ على هوى النّفس وشهوتها‏.‏ وقد يقال‏:‏ أيّ علاقةٍ بين إراقة الدّم وبين شكر المنعم عزّ وجلّ والتّقرّب إليه ‏؟‏ والجواب من وجهين‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ هذه الإراقة وسيلةٌ للتّوسعة على النّفس وأهل البيت، وإكرام الجار والضّيف، والتّصدّق على الفقير، وهذه كلّها مظاهر للفرح والسّرور بما أنعم اللّه به على الإنسان، وهذا تحدّثٌ بنعمة اللّه تعالى كما قال عزّ اسمه‏:‏ ‏{‏وأمّا بنعمة ربّك فحدّث‏}‏‏.‏

ثانيهما‏:‏ المبالغة في تصديق ما أخبر به اللّه عزّ وجلّ من أنّه خلق الأنعام لنفع الإنسان، وأذن في ذبحها ونحرها لتكون طعاماً له‏.‏ فإذا نازعه في حلّ الذّبح والنّحر منازعٌ تمويهاً بأنّهما من القسوة والتّعذيب لذي روحٍ تستحقّ الرّحمة والإنصاف، كان ردّه على ذلك أنّ اللّه عزّ وجلّ الّذي خلقنا وخلق هذه الحيوانات، وأمرنا برحمتها والإحسان إليها، أخبرنا وهو العليم بالغيب أنّه خلقها لنا وأباح تذكيتها، وأكّد هذه الإباحة بأن جعل هذه التّذكية قربةً في بعض الأحيان‏.‏

حكم الأضحيّة‏:‏

7 - ذهب جمهور الفقهاء، ومنهم الشّافعيّة والحنابلة، وهو أرجح القولين عند مالكٍ، وإحدى روايتين عن أبو يوسف إلى أنّ الأضحيّة سنّةٌ مؤكّدةٌ‏.‏ وهذا قول أبي بكرٍ وعمر وبلالٍ وأبي مسعودٍ البدريّ وسويد بن غفلة وسعيد بن المسيّب وعطاءٍ وعلقمة والأسود وإسحاق وأبي ثورٍ وابن المنذر‏.‏ واستدلّ الجمهور على السّنّيّة بأدلّةٍ‏:‏ منها قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «إذا دخل العشر، وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً»‏.‏ ووجه الدّلالة في هذا الحديث أنّ الرّسول صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «وأراد أحدكم» فجعله مفوّضاً إلى إرادته، ولو كانت التّضحية واجبةً لاقتصر على قوله‏:‏ «فلا يمسّ من شعره شيئاً حتّى يضحّي»‏.‏ ومنها أيضاً أنّ أبا بكرٍ وعمر رضي الله عنهما كانا لا يضحّيان السّنة والسّنتين، مخافة أن يرى ذلك واجباً‏.‏ وهذا الصّنيع منهما يدلّ على أنّهما علما من الرّسول صلى الله عليه وسلم عدم الوجوب، ولم يرو عن أحدٍ من الصّحابة خلاف ذلك‏.‏

8 - وذهب أبو حنيفة إلى أنّها واجبةٌ‏.‏ وهذا المذهب هو المرويّ عن محمّدٍ وزفر وإحدى الرّوايتين عن أبي يوسف‏.‏ وبه قال ربيعة واللّيث بن سعدٍ والأوزاعيّ والثّوريّ ومالكٌ في أحد قوليه‏.‏ واستدلّوا على ذلك بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فصلّ لربّك وانحر‏}‏ فقد قيل في تفسيره صلّ صلاة العيد وانحر البدن، ومطلق الأمر للوجوب، ومتى وجب على النّبيّ صلى الله عليه وسلم وجب على الأمّة لأنّه قدوتها‏.‏ وبقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا»، وهذا كالوعيد على ترك التّضحية، والوعيد إنّما يكون على ترك الواجب‏.‏ وبقوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «من ذبح قبل الصّلاة فليذبح شاةً مكانها، ومن لم يكن ذبح فليذبح على اسم اللّه»، فإنّه أمر بذبح الأضحيّة وبإعادتها إذا ذكّيت قبل الصّلاة، وذلك دليل الوجوب‏.‏ ثمّ إنّ الحنفيّة القائلين بالوجوب يقولون‏:‏ إنّها واجبةٌ عيناً على كلّ من وجدت فيه شرائط الوجوب‏.‏ فالأضحيّة الواحدة كالشّاة وسبع البقرة وسبع البدنة إنّما تجزئ عن شخصٍ واحدٍ‏.‏

9 - وأمّا القائلون بالسّنّيّة فمنهم من يقول‏:‏ إنّها سنّة عينٍ أيضاً، كالقول المرويّ عن أبي يوسف فعنده لا يجزئ الأضحيّة الواحدة عن الشّخص وأهل بيته أو غيرهم‏.‏ ومنهم من يقول‏:‏ إنّها سنّة عينٍ ولو حكماً، بمعنى أنّ كلّ واحدٍ مطالبٌ بها، وإذا فعلها واحدٌ بنيّة نفسه وحده لم تقع إلاّ عنه، وإذا فعلها بنيّة إشراك غيره في الثّواب، أو بنيّة كونها لغيره أسقطت الطّلب عمّن أشركهم أو أوقعها عنهم‏.‏ وهذا رأي المالكيّة، وإيضاحه أنّ الشّخص إذا ضحّى ناوياً نفسه فقط سقط الطّلب عنه، وإذا ضحّى ناوياً نفسه وأبويه الفقيرين وأولاده الصّغار، وقعت التّضحية عنهم، ويجوز له أن يشرك غيره في الثّواب - قبل الذّبح - ولو كانوا أكثر من سبعةٍ بثلاث شرائط‏:‏

الأولى‏:‏ أن يسكن معه‏.‏

الثّانية‏:‏ أن يكون قريباً له وإن بعدت القرابة، أو زوجةً‏.‏

الثّالثة‏:‏ أن ينفق على من يشركه وجوباً كأبويه وصغار ولده الفقراء، أو تبرّعاً كالأغنياء منهم وكعمٍّ وأخٍ وخالٍ‏.‏ فإذا وجدت هذه الشّرائط سقط الطّلب عمّن أشركهم‏.‏ وإذا ضحّى بشاةٍ أو غيرها ناوياً غيره فقط، ولو أكثر من سبعةٍ، من غير إشراك نفسه معهم سقط الطّلب عنهم بهذه التّضحية، وإن لم تتحقّق فيهم الشّرائط الثّلاث السّابقة‏.‏ ولا بدّ في كلّ ذلك أن تكون الأضحيّة ملكاً خاصّاً للمضحّي، فلا يشاركوه فيها ولا في ثمنها، وإلاّ لم تجزئ، كما سيأتي في شرائط الصّحّة‏.‏

10 - ومن القائلين بالسّنّيّة من يجعلها سنّة عينٍ في حقّ المنفرد، وسنّة كفايةٍ في حقّ أهل البيت الواحد، وهذا رأي الشّافعيّة والحنابلة‏.‏ فقد قالوا‏:‏ إنّ الشّخص يضحّي بالأضحيّة الواحدة - ولو كانت شاةً - عن نفسه وأهل بيته‏.‏

وللشّافعيّة تفسيراتٌ متعدّدةٌ لأهل البيت الواحد والرّاجح تفسيران‏:‏

أحدهما‏:‏ أنّ المقصود بهم من تلزم الشّخص نفقتهم، وهذا هو الّذي رجّحه الشّمس الرّمليّ في نهاية المحتاج‏.‏

ثانيهما‏:‏ من تجمعهم نفقة منفقٍ واحدٍ ولو تبرّعاً، وهذا هو الّذي صحّحه الشّهاب الرّمليّ بهامش شرح الرّوض‏.‏ قالوا‏:‏ ومعنى كونها سنّة كفايةٍ - مع كونها تسنّ لكلّ قادرٍ منهم عليها - سقوط الطّلب عنهم بفعل واحدٍ رشيدٍ منهم، لا حصول الثّواب لكلٍّ منهم، إلاّ إذا قصد المضحّي تشريكهم في الثّواب‏.‏ وممّا استدلّ به على كون التّضحية سنّة كفايةٍ عن الرّجل وأهل بيته حديث أبي أيّوب الأنصاريّ رضي الله عنه قال‏:‏ «كنّا نضحّي بالشّاة الواحدة يذبحها الرّجل عنه وعن أهل بيته، ثمّ تباهى النّاس بعد فصارت مباهاةً»‏.‏ وهذه الصّيغة الّتي قالها أبو أيّوب رضي الله عنه تقتضي أنّه حديثٌ مرفوعٌ‏.‏

الأضحيّة المنذورة

11 - اتّفق الفقهاء على أنّ نذر التّضحية يوجبها، سواءٌ أكان النّاذر غنيّاً أم فقيراً، وهو إمّا أن يكون نذراً لمعيّنةٍ نحو‏:‏ للّه عليّ أن أضحّي بهذه الشّاة، وإمّا أن يكون نذراً في الذّمّة لغير معيّنةٍ لمضمونةٍ، كأن يقول‏:‏ للّه عليّ أن أضحّي، أو يقول‏:‏ للّه عليّ أن أضحّي بشاةٍ‏.‏ فمن نذر التّضحية بمعيّنةٍ لزمه التّضحية بها في الوقت، وكذلك من نذر التّضحية في الذّمّة بغير معيّنةٍ، ثمّ عيّن شاةً مثلاً عمّا في ذمّته، فإنّه يجب عليه التّضحية بها في الوقت‏.‏ وصرّح الشّافعيّة بأنّ من نذر معيّنةً، وبها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء صحّ نذره، ووجب عليه ذبحها في الوقت، وفاءً بما التزمه، ولا يجب عليه بدلها‏.‏ ومن نذر أضحيّةً في ذمّته، ثمّ عيّن شاةً بها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء لم يصحّ تعيينه إلاّ إذا كان قد نذرها معيبةً، كأن قال‏:‏ عليّ أن أضحّي بشاةٍ عرجاء بيّنة العرج‏.‏ وقال الحنابلة مثل ما قال الشّافعيّة، إلاّ أنّهم أجازوا إبدال المعيّنة بخيرٍ منها، لأنّ هذا أنفع للفقراء‏.‏ ودليل وجوب الأضحيّة بالنّذر‏:‏ أنّ التّضحية قربةٌ للّه تعالى من جنسها واجبٌ كهدي التّمتّع، فتلزم بالنّذر كسائر القرب، والوجوب بسبب النّذر يستوي فيه الفقير والغنيّ‏.‏

أضحيّة التّطوّع

12 - من لم تجب التّضحية عليه لعدم توفّر شرطٍ من شروط وجوبها عند من قال بالوجوب، ولعدم توفّر شروط السّنّيّة عند من قال بأنّها سنّةٌ، فالأضحيّة تعتبر في حقّه تطوّعاً‏.‏

شروط وجوب الأضحيّة أو سنّيّتها

13 - الأضحيّة إذا كانت واجبةً بالنّذر فشرائط وجوبها هي شرائط النّذر، وهي‏:‏ الإسلام والبلوغ والعقل والحرّيّة والاختيار، ولتفصيلها يراجع باب النّذر‏.‏ وإذا كانت واجبةً بالشّرع ‏(‏عند من يقول بذلك‏)‏ فشروط وجوبها أربعةٌ، وزاد محمّدٌ وزفر شرطين، وهذه الشّروط أو بعضها مشترطةٌ في سنّيّتها أيضاً عند من قال بعدم الوجوب، وزاد المالكيّة شرطاً في سنّيّتها، وبيان ذلك كما يلي‏:‏

14 - الشّرط الأوّل‏:‏ الإسلام، فلا تجب على الكافر، ولا تسنّ له، لأنّها قربةٌ، والكافر ليس من أهل القرب، ولا يشترط عند الحنفيّة وجود الإسلام في جميع الوقت الّذي تجزئ فيه التّضحية، بل يكفي وجوده آخر الوقت، لأنّ وقت الوجوب يفضل عن أداء الواجب، فيكفي في وجوبها بقاء جزءٍ من الوقت كالصّلاة، وكذا يقال في جميع الشّروط الآتية، وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين القائلين بالوجوب والقائلين بالسّنّيّة، بل إنّه أيضاً شرطٌ للتّطوّع‏.‏

15 - الشّرط الثّاني‏:‏ الإقامة، فلا تجب على المسافر، لأنّها لا تتأدّى بكلّ مالٍ ولا في كلّ زمانٍ، بل بحيوانٍ مخصوصٍ في وقتٍ مخصوصٍ، والمسافر لا يظفر به في كلّ مكان في وقت التّضحية، فلو أوجبناها عليه لاحتاج لحمل الأضحيّة مع نفسه، وفيه من الحرج ما لا يخفى، أو احتاج إلى ترك السّفر، وفيه ضررٌ، فدعت الضّرورة إلى امتناع وجوبها عليه، بخلاف المقيم ولو كان حاجّاً، لما روى نافعٌ عن ابن عمر - رضي الله عنهما - أنّه كان يخلّف لمن لم يحجّ من أهله أثمان الضّحايا، وذلك ليضحّوا عنه تطوّعاً‏.‏ ويحتمل أنّه ليضحّوا عن أنفسهم لا عنه، فلا يثبت الوجوب مع الاحتمال‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة القائلين بالوجوب، وأمّا من قال بالسّنّيّة فلا يشترط هذا الشّرط، وكذلك لا يشترط في التّطوّع، لأنّه لا يترتّب على سنّيّتها ولا التّطوّع بها حرجٌ‏.‏

16 - الشّرط الثّالث‏:‏ الغنى - ويعبّر عنه باليسار - لحديث «من كان له سعةٌ ولم يضحّ فلا يقربنّ مصلاّنا» والسّعة هي الغنى، ويتحقّق عند الحنفيّة بأن يكون في ملك الإنسان مائتا درهمٍ أو عشرون ديناراً، أو شيءٌ تبلغ قيمته ذلك، سوى مسكنه وحوائجه الأصليّة وديونه‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يتحقّق الغنى بألاّ تجحف الأضحيّة بالمضحّي، بألاّ يحتاج لثمنها في ضروريّاته في عامه‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إنّما تسنّ للقادر عليها، وهو من ملك ما يحصل به الأضحيّة، فاضلاً عمّا يحتاج إليه في يوم العيد وليلته وأيّام التّشريق الثّلاثة ولياليها‏.‏

17 - الشّرطان الرّابع والخامس‏:‏ البلوغ والعقل، وهذان الشّرطان اشترطهما محمّدٌ وزفر، ولم يشترطهما أبو حنيفة وأبو يوسف، فعندهما تجب التّضحية في مال الصّبيّ والمجنون إذا كانا موسرين، فلو ضحّى الأب أو الوصيّ عنها من مالهما لم يضمن في قول أبي حنيفة وأبي يوسف، ويضمن في قول محمّدٍ وزفر، وهذا الخلاف كالخلاف في صدقة الفطر‏.‏ ولتفصيل حجج الفريقين يرجع لمصطلح ‏(‏صدقة الفطر‏)‏‏.‏

18 - والّذي يجنّ ويفيق يعتبر حاله في الجنون والإفاقة، فإن كان مجنوناً في أيّام النّحر فهو على الاختلاف، وإن كان مفيقاً وجبت من ماله بلا خلافٍ، وقيل‏:‏ إنّ حكمه حكم الصّحيح كيفما كان‏.‏ وهذا الّذي قرّره صاحب ‏"‏ البدائع ‏"‏ يقتضي برجيح القول بالوجوب، لكن صحّح صاحب الكافي القول بعدم الوجوب ورجّحه ابن الشّحنة واعتمده صاحب ‏"‏ الدّرّ المختار ‏"‏ ناقلاً عن متن ‏"‏ مواهب الرّحمن ‏"‏ أنّه أصحّ ما يفتى به، وقال ابن عابدين‏:‏ إنّ هذا القول اختاره صاحب الملتقى حيث قدّمه، وعبّر عن مقابله بصيغة التّضعيف، وهي ‏"‏ قيل ‏"‏‏.‏ هذا كلّه رأي الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يشترط في سنّيّة التّضحية البلوغ ولا العقل، فيسنّ للوليّ التّضحية عن الصّغير والمجنون من مالهما، ولو كانا يتيمين‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يجوز للوليّ أن يضحّي عن محجوريه من أموالهم، وإنّما يجوز أن يضحّي عنهم من ماله إن كان أباً أو جدّاً، وكأنّه ملكها لهم وذبحها عنهم، فيقع له ثواب التّبرّع لهم، ويقع لهم ثواب التّضحية‏.‏ وقال الحنابلة في اليتيم الموسر‏:‏ يضحّي عنه وليّه من ماله، أي مال المحجور، وهذا على سبيل التّوسعة في يوم العيد لا على سبيل الإيجاب‏.‏

19 - هذا وقد انفرد المالكيّة بذكر شرطٍ لسنّيّة التّضحية، وهو ألاّ يكون الشّخص حاجّاً، فالحاجّ لا يطالب بالتّضحية شرعاً، سواءٌ، أكان بمنًى أم بغيرها، وغير الحاجّ هو المطالب بها، وإن كان معتمراً أو كان بمنًى‏.‏ وعند الحنفيّة لا تجب على حاجٍّ مسافرٍ‏.‏

20 - هذا وليست الذّكورة ولا المصر من شروط الوجوب ولا السّنّيّة، فكما تجب على الذّكور تجب على الإناث، وكما تجب على المقيمين في الأمصار تجب على المقيمين في القرى والبوادي، لأنّ أدلّة الوجوب أو السّنّيّة شاملةٌ للجميع‏.‏

تضحية الإنسان من ماله عن ولده

21 - إذا كان الولد كبيراً فلا يجب على أبيه أو جدّه التّضحية عنه، أمّا الولد وولد الولد الصّغيران فإن كان لهما مالٌ فقد سبق الكلام عن ذلك، وإن لم يكن لهما مالٌ، فعن أبي حنيفة في ذلك روايتان‏:‏

أولاهما‏:‏ أنّها لا تجب، وهو ظاهر الرّواية، وعليه الفتوى، لأنّ الأصل أنّه لا يجب على الإنسان شيءٌ عن غيره، وخصوصاً القربات، لقوله تعالى ‏{‏وأن ليس للإنسان إلاّ ما سعى‏}‏‏.‏ وقوله جلّ شأنه ‏{‏لها ما كسبت‏}‏‏.‏ ولهذا لم تجب عليه عن ولده وولد ولده الكبيرين‏.‏

ثانيتهما‏:‏ أنّها تجب، لأنّ ولد الرّجل جزؤه وكذا ولد ابنه، فإذا وجب عليه أن يضحّي عن نفسه وجب عليه أن يضحّي عن ولده وولد ابنه قياساً على صدقة الفطر‏.‏ ثمّ على القول بظاهر الرّواية - وهو عدم الوجوب - يستحبّ للإنسان أن يضحّي عن ولده وولد ابنه الصّغيرين من مال نفسه، والمقصود بولد ابنه هو اليتيم الّذي تحت ولاية جدّه‏.‏ وهذا موافقٌ لما سبق من مذهب الجمهور‏.‏

شروط صحّة الأضحيّة

22 - للتّضحية شرائط تشملها وتشمل كلّ الذّبائح، ولتفصيلها ‏(‏ر‏:‏ ذبائح‏)‏‏.‏

وشرائط تختصّ بها، وهي ثلاثة أنواعٍ‏:‏ نوعٌ يرجع إلى الأضحيّة، ونوعٌ يرجع إلى المضحّي، ونوعٌ يرجع إلى وقت التّضحية‏.‏

النّوع الأوّل‏:‏ شروط الأضحيّة في ذاتها‏:‏

23 - الشّرط الأوّل‏:‏ وهو متّفقٌ عليه بين المذاهب‏:‏ أن تكون من الأنعام، وهي الإبل عراباً كانت أو بخاتيّ، والبقرة الأهليّة ومنها الجواميس، والغنم ضأناً كانت أو معزاً، ويجزئ من كلّ ذلك الذّكور والإناث‏.‏ فمن ضحّى بحيوانٍ مأكولٍ غير الأنعام، سواءٌ أكان من الدّوابّ أم الطّيور، لم تصحّ تضحيته به، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولكلّ أمّةٍ جعلنا منسكاً ليذكروا اسم اللّه على ما رزقهم من بهيمة الأنعام‏}‏ ولأنّه لم تنقل التّضحية بغير الأنعام عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولو ذبح دجاجةً أو ديكاً بنيّة التّضحية لم يجزئ‏.‏ ويتعلّق بهذا الشّرط أنّ الشّاة تجزئ عن واحدٍ، والبدنة والبقرة كلٌّ منهما عن سبعةٍ، لحديث جابرٍ رضي الله عنه قال‏:‏ «نحرنا مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عام الحديبية البدنة عن سبعةٍ، والبقرة عن سبعةٍ»، وهذا مرويٌّ عن عليٍّ وابن عمر وابن مسعودٍ وابن عبّاسٍ وعائشة رضي الله عنهم، وبه قال عطاءٌ وطاوسٌ وسالمٌ والحسن وعمرو بن دينارٍ والثّوريّ والأوزاعيّ وأبو ثورٍ وأكثر أهل العلم، وهو قول الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وعن ابن عمر رضي الله عنهما روايةٌ أخرى أنّه قال‏:‏ «لا تجزئ نفسٌ واحدةٌ عن سبعةٍ» وقال المالكيّة‏:‏ لا يجزئ الاشتراك في اللّحم أو الثّمن، لا في الشّاة ولا في البدنة ولا في البقرة، ولكن تجزئ الأضحيّة الواحدة الّتي يملكها شخصٌ واحدٌ أن يضحّي بها عن نفسه وعن أبويه الفقيرين وأولاده الصّغار، وكذلك يجزئ أن يضحّي الإنسان بالأضحيّة الواحدة الّتي يملكها وحده ناوياً إشراك غيره معه في الثّواب، أو ناوياً كونها كلّها عن غيره كما سبق ‏(‏ف 9‏)‏‏.‏

24 - الشّرط الثّاني‏:‏ أن تبلغ سنّ التّضحية، بأن تكون ثنيّةً أو فوق الثّنيّة من الإبل والبقر والمعز، وجذعةً أو فوق الجذعة من الضّأن، فلا تجزئ التّضحية بما دون الثّنيّة من غير الضّأن، ولا بما دون الجذعة من الضّأن، لقول النّبيّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا تذبحوا إلاّ مسنّةً، إلاّ أن يعسر عليكم، فتذبحوا جذعةً من الضّأن»‏.‏ والمسنّة من كلّ الأنعام هي الثّنيّة فما فوقها‏.‏ حكاه النّوويّ عن أهل اللّغة‏.‏ ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «نعمت الأضحيّة الجذع من الضّأن»‏.‏ وهذا الشّرط متّفقٌ عليه بين الفقهاء، ولكنّهم اختلفوا في تفسير الثّنيّة والجذعة‏.‏

25 - فذهب الحنفيّة والحنابلة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما أتمّ ستّة أشهرٍ، وقيل‏:‏ ما أتمّ ستّة أشهرٍ وشيئاً‏.‏ وأيّاً ما كان فلا بدّ أن يكون عظيماً بحيث لو خلط بالثّنايا لاشتبه على النّاظرين من بعيدٍ‏.‏ والثّنيّ من الضّأن والمعز ابن سنةٍ، ومن البقر ابن سنتين، ومن الإبل ابن خمس سنين‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ الجذع من الضّأن ما بلغ سنةً ‏(‏قمريّةً‏)‏ ودخل في الثّانية ولو مجرّد دخولٍ، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنةً، ودخل في الثّانية دخولاً بيّناً، كمضيّ شهرٍ بعد السّنة، وفسّروا الثّنيّ من البقر بما بلغ ثلاث سنين، ودخل في الرّابعة ولو دخولاً غير بيّنٍ، والثّنيّ من الإبل بما بلغ خمساً ودخل في السّادسة ولو دخولاً غير بيّنٍ‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الجذع ما بلغ سنةً، وقالوا‏:‏ لو أجذع بأن أسقط مقدّم أسنانه قبل السّنة وبعد تمام ستّة أشهرٍ يكفي، وفسّروا الثّنيّ من المعز بما بلغ سنتين، وكذلك البقر‏.‏

26 - الشّرط الثّالث‏:‏ سلامتها من العيوب الفاحشة، وهي العيوب الّتي من شأنها أن تنقص الشّحم أو اللّحم إلاّ ما استثني‏.‏ وبناءً على هذا الشّرط لا تجزئ التّضحية بما يأتي‏:‏

1 - العمياء‏.‏

2 - العوراء البيّن عورها، وهي الّتي ذهب بصر إحدى عينيها، وفسّرها الحنابلة بأنّها الّتي انخسفت عينها وذهبت، لأنّها عضوٌ مستطابٌ، فلو لم تذهب العين أجزأت عندهم، وإن كان على عينها بياضٌ يمنع الإبصار‏.‏

3 - مقطوعة اللّسان بالكلّيّة‏.‏

4 - ما ذهب من لسانها مقدارٌ كثيرٌ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يضرّ قطع بعض اللّسان ولو قليلاً‏.‏

5 - الجدعاء وهي مقطوعة الأنف‏.‏

6 - مقطوعة الأذنين أو إحداهما، وكذا السّكّاء وهي‏:‏ فاقدة الأذنين أو إحداهما خلقةً وخالف الحنابلة في السّكّاء‏.‏

7 - ما ذهب من إحدى أذنيها مقدارٌ كثيرٌ، واختلف العلماء في تفسير الكثير، فذهب الحنفيّة إلى أنّه ما زاد عن الثّلث في روايةٍ، والثّلث فأكثر في روايةٍ أخرى، والنّصف أو أكثر، وهو قول أبي يوسف، والرّبع أو أكثر في روايةٍ رابعةٍ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يضرّ ذهاب ثلث الأذن أو أقلّ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يضرّ ذهاب بعض الأذن مطلقاً‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يضرّ ذهاب أكثر الأذن‏.‏ والأصل في ذلك كلّه حديث‏:‏ «إنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم نهى أن يضحّي بعضباء الأذن»‏.‏

8 - العرجاء البيّن عرجها، وهي الّتي لا تقدر أن تمشي برجلها إلى المنسك - أي المذبح - وفسّرها المالكيّة والشّافعيّة بالّتي لا تسير بسير صواحبها‏.‏

9 - الجذماء وهي‏:‏ مقطوعة اليد أو الرّجل، وكذا فاقدة إحداهما خلقةً‏.‏

10 - الجذّاء وهي‏:‏ الّتي قطعت رءوس ضروعها أو يبست‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يضرّ قطع بعض الضّرع، ولو قليلاً‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ إنّ الّتي لا تجزئ هي يابسة الضّرع جميعه، فإن أرضعت ببعضه أجزأت‏.‏

11 - مقطوعة الألية، وكذا فاقدتها خلقةً، وخالف الشّافعيّة فقالوا بإجزاء فاقدة الألية خلقةً، بخلاف مقطوعتها‏.‏

12 - ما ذهب من أليتها مقدارٌ كثيرٌ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يضرّ ذهاب بعض الألية ولو قليلاً‏.‏

13 - مقطوعة الذّنب، وكذا فاقدته خلقةً، وهي المسمّاة بالبتراء، وخالف الحنابلة فيهما فقالوا‏:‏ إنّهما يجزئان‏.‏ وخالف الشّافعيّة في الثّانية دون الأولى‏.‏

14 - ما ذهب من ذنبها مقدارٌ كثيرٌ‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا تجزئ ذاهبة ثلثه فصاعداً‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يضرّ قطع بعضه ولو قليلاً‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لا يضرّ قطع الذّنب كلاًّ أو بعضاً‏.‏

15 - المريضة البيّن مرضها، أي الّتي يظهر مرضها لمن يراها‏.‏

16 -العجفاء الّتي لا تنقي، وهي المهزولة الّتي ذهب نقيها، وهو المخّ الّذي في داخل العظام، فإنّها لا تجزئ، لأنّ تمام الخلقة أمرٌ ظاهرٌ، فإذا تبيّن خلافه كان تقصيراً‏.‏

17 - مصرّمة الأطبّاء، وهي الّتي عولجت حتّى انقطع لبنها‏.‏

18 - الجلاّلة، وهي الّتي تأكل العذرة ولا تأكل غيرها، ممّا لم تستبرأ بأن تحبس أربعين يوماً إن كانت من الإبل، أو عشرين يوماً إن كانت من البقر، أو عشرةً إن كانت من الغنم‏.‏

27 - هذه الأمثلة ذكرت في كتب الحنفيّة‏.‏ وهناك أمثلةٌ أخرى للأنعام الّتي لا تجزئ التّضحية بها ذكرت في كتب المذاهب الأخرى‏.‏

منها ما ذكره المالكيّة حيث قالوا‏:‏ لا تجزئ ‏(‏البكماء‏)‏ وهي فاقدة الصّوت ولا ‏(‏البخراء‏)‏ وهي منتنة رائحة الفم، ولم يقيّدوا ذلك بكونها جلاّلةً ولا بيّنة البشم، وهو التّخمة‏.‏ ولا ‏(‏الصّمّاء‏)‏ وهي الّتي لا تسمع‏.‏

ومنها ما ذكره الشّافعيّة من أنّ ‏(‏الهيماء‏)‏ لا تجزئ، وهي المصابة بالهيام وهو عطشٌ شديدٌ لا ترتوي معه بالماء، فتهيم في الأرض ولا ترعى‏.‏ وكذا ‏(‏الحامل‏)‏ على الأصحّ، لأنّ الحمل يفسد الجوف ويصير اللّحم رديئاً‏.‏

ومنها ما ذكره الحنابلة من عدم إجزاء ‏(‏العصماء‏)‏ وهي الّتي انكسر غلاف قرنها ‏(‏والخصيّ المجبوب‏)‏، وهو ما ذهب أنثياه وذكره معاً، بخلاف ذاهب أحدهما‏.‏ والأصل الّذي دلّ على اشتراط السّلامة من هذه العيوب كلّها ما صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وسلم أنّه قال‏:‏ «لا تجزئ من الضّحايا أربعٌ‏:‏ العوراء البيّن عورها، والعرجاء البيّن عرجها، والمريضة البيّن مرضها، والعجفاء الّتي لا تنقي»‏.‏ وما صحّ عنه عليه الصلاة والسلام أنّه قال‏:‏ «استشرفوا العين والأذن» أي تأمّلوا سلامتها عن الآفات، وما صحّ عنه عليه الصلاة والسلام «أنّه نهى أن يضحّى بعضباء الأذن»‏.‏ وألحق الفقهاء بما في هذه الأحاديث كلّ ما فيه عيبٌ فاحشٌ‏.‏

28 - أمّا الأنعام الّتي تجزئ التّضحية بها لأنّ عيبها ليس بفاحشٍ فهي كالآتي‏:‏

1 - الجمّاء‏:‏ وتسمّى الجلحاء، وهي الّتي لا قرن لها خلقةً، ومثلها مكسورة القرن إن لم يظهر عظم دماغها، لما صحّ عن عليٍّ رضي الله عنه أنّه قال لمن سأله عن مكسورة القرن‏:‏ لا بأس، أمرنا أن نستشرف العينين والأذنين‏.‏ وقد اتّفقت المذاهب على إجزاء الجمّاء، واختلفت في مكسورة القرن، فقال المالكيّة‏:‏ تجزئ ما لم يكن موضع الكسر دامياً، وفسّروا الدّامي بما لم يحصل الشّفاء منه، وإن لم يظهر فيه دمٌ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ تجزئ وإن أدمى موضع الكسر، ما لم يؤثّر ألم الانكسار في اللّحم، فيكون مرضاً مانعاً من الإجزاء‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لا تجزئ إن كان الذّاهب من القرن أكثر من النّصف، وتسمّى عضباء القرن‏.‏

2 - الحولاء، وهي الّتي في عينها حولٌ لم يمنع البصر‏.‏

3 - الصّمعاء، وهي الصّغيرة إحدى الأذنين أو كليهما‏.‏ وخالف المالكيّة فقالوا‏:‏ لا يجزئ الصّمعاء، وفسّروها بالصّغيرة الأذنين جدّاً، كأنّها خلقت بدونهما‏.‏

4 - الشّرقاء وهي مشقوقة الأذن، وإن زاد الشّقّ على الثّلث‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا تجزئ إلاّ إن كان الشّقّ ثلثاً فأقلّ‏.‏

5 - الخرقاء وهي مثقوبة الأذن، ويشترط في إجزائها ألاّ يذهب بسبب الخرق مقدارٌ كثيرٌ‏.‏

6 - المدابرة وهي الّتي قطع من مؤخّر أذنها شيءٌ ولم يفصّل، بل ترك معلّقاً، فإن فصّل فهي مقطوعة بعض الأذن وقد سبق بيان حكمها‏.‏

7 -الهتماء وهي الّتي لا أسنان لها، لكن يشترط في إجزائها ألاّ يمنعها الهتم عن الرّعي والاعتلاف، فإن منعها عنهما لم تجزئ‏.‏ وهو مذهب الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا تجزئ مكسور سنّين فأكثر أو مقلوعتهما، إلاّ إذا كان ذلك لإثغارٍ أو كبرٍ، أمّا لهذين الأمرين فتجزئ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ تجزئ ذاهبة بعض الأسنان إن لم يؤثّر نقصاً في الاعتلاف، ولا ذاهبة جميعها ولا مكسورة جميعها، وتجزئ المخلوقة بلا أسنانٍ‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ لا تجزئ ما ذهب ثناياها من أصلها، بخلاف ما لو بقي من الثّنايا بقيّةٌ‏.‏

8 - الثّولاء وهي المجنونة، ويشترط في إجزائها ألاّ يمنعها الثّول عن الاعتلاف، فإن منعها منه لم تجزئ، لأنّ ذلك يفضي إلى هلاكها‏.‏ وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ لا تجزئ الثّولاء، وفسّرها المالكيّة بأنّها الدّائمة الجنون الّتي فقدت التّمييز بحيث لا تهتدي لما ينفعها ولا تجانب ما يضرّها، وقالوا‏:‏ إن كان جنونها غير دائمٍ لم يضرّ‏.‏ وفسّرها الشّافعيّة بأنّها الّتي تستدير في المرعى، ولا ترى إلاّ قليلاً، فتهزل‏.‏

9 - الجرباء السّمينة، بخلاف المهزولة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لا تجزئ الجرباء مطلقاً‏.‏

10 - المكويّة وهي الّتي كويت أذنها أو غيرها من الأعضاء‏.‏

11 - الموسومة وهي‏:‏ الّتي في أذنها سمةٌ‏.‏

12 - العاجزة عن الولادة لكبر سنّها‏.‏

13 - الخصيّ وإنّما أجزأ، لأنّ ما ذهب بخصائه يعوّض بما يؤدّي إليه من كثرة لحمه وشحمه، وقد صحّ «وأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أملحين موجوءين» أي مرضوضي الخصيتين، ويلحق بالمرض الخصاء، لأنّ أثرهما واحدٌ‏.‏ وقد اتّفقت على إجزائه المذاهب الأربعة‏.‏ وحكى صاحب ‏"‏ المغني ‏"‏ الإجزاء عن الحسن وعطاءٍ والشّعبيّ والنّخعيّ ومالكٍ والشّافعيّ وأبي ثورٍ وأصحاب الرّأي‏.‏ وكالخصيّ الموجوء وهو المرضوض الخصية‏.‏ وهذا متّفقٌ عليه بين المذاهب‏.‏

14 - المجبوب وهو ما قطع ذكره وسبق قول الحنابلة أنّ المجبوب الخصيّ - وهو‏:‏ ما ذهب أنثياه وذكره معاً - لا يجزئ، بخلاف ذاهب أحدهما فقط ‏(‏ف / 26‏)‏‏.‏

15 - المجزوزة وهي الّتي جزّ صوفها‏.‏

16 - السّاعلة وهي الّتي تسعل - بضمّ العين - ويجب تقييد ذلك بما لم يصحبه مرضٌ بيّنٌ‏.‏

29 - هذه الأمثلة ذكرها الحنفيّة وجاء في كتب غيرهم أمثلةٌ أخرى لما يجزئ‏.‏

ومنها‏:‏ ما صرّح به المالكيّة من أنّ المقعدة - وهي العاجزة عن القيام لكثرة الشّحم عليها - تجزئ‏.‏

منها‏:‏ ما ذكره الشّافعيّة من أنّ العشواء تجزئ، وهي الّتي تبصر بالنّهار دون اللّيل، وكذا العمشاء وضعيفة البصر‏.‏ وكذا الّتي قطع منها قطعةٌ صغيرةٌ من عضوٍ كبيرٍ، كالّتي أخذ الذّئب مقداراً قليلاً من فخذها، بخلاف المقدار البيّن الّذي يعدّ كثيراً بالنّسبة لجميع الفخذ‏.‏ طروء العيب المخلّ بعد تعيين الأضحيّة‏:‏

30 - لو اشترى رجلٌ شاةً بنيّة الأضحيّة فعجفت عنده عجفاً بيّناً لم تجزئه، إن كان عند الشّراء موسراً مقيماً، وكان شراؤه إيّاها في وقت الوجوب، لما سبق من أنّ شراءه للأضحيّة لا يوجبها، لأنّه تجب عليه أضحيّةٌ في ذمّته بأصل الشّرع، وإنّما أقام ما اشتراه مقام ما في الذّمّة، فإذا نقص لم يصلح لهذه الإقامة فيبقى ما في ذمّته بحاله‏.‏ فإن كان عند الشّراء فقيراً، أو غنيّاً مسافراً، أو غنيّاً مقيماً، واشتراها قبل وقت النّحر، أجزأته في هذه الصّور كلّها، لأنّه لم تكن في ذمّته أضحيّةٌ واجبةٌ وقت الشّراء، فكان الشّراء بنيّة التّضحية إيجاباً لها بمنزلة نذر الأضحيّة المعيّنة، فكان نقصانها كهلاكها يسقط به إيجابها‏.‏ ويعلم من هذا أنّ الفقير أو الغنيّ لو أوجب على نفسه بالنّذر أضحيّةً غير معيّنةٍ، ثمّ اشترى شاةً بنيّة التّضحية، فتعيّبت، لم تجزئ، لأنّ الشّراء في هذه الحالة ليس إيجاباً، وإنّما هو إقامةٌ لما يشتريه مقام الواجب‏.‏ ومن شرط الإقامة السّلامة، فإذا لم تجزئ إقامتها مقام الواجب بقي الواجب في ذمّته كما كان‏.‏ وكالشّاة الّتي عجفت بعد الشّراء، كلّ النّعم الّتي يحدث لها بعد الشّراء عيبٌ مخلٌّ، أو تموت، أو تسرق، ففيها التّفصيل السّابق‏.‏

31 - ولو قدّم المضحّي أضحيّةً ليذبحها، فاضطربت في المكان الّذي يذبحها فيه، فانكسرت رجلها، أو انقلبت فأصابتها الشّفرة في عينها فاعورّت أجزأته، لأنّ هذا ممّا لا يمكن الاحتراز عنه، لأنّ الشّاة تضطرب عادةً، فتلحقها العيوب من اضطرابها‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّ الأضحيّة المعيّنة بالنّذر أو بغيره إذا حدث بها عيبٌ مخلٌّ لم تجزئ، وله التّصرّف فيها بالبيع وغيره، وعليه التّضحية بأخرى إن كانت منذورةً، ويسنّ له التّضحية بأخرى إن لم تكن منذورةً‏.‏ هذا إن تعيّبت قبل الإضجاع للذّبح، أمّا لو تعيّبت بعد الإضجاع له فيجزئ ذبحها‏.‏

وقال الشّافعيّة‏:‏ من أوجب أضحيّةً معيّنةً بالنّذر أو الجعل، ثمّ طرأ عليها - عيبٌ يمنع إجزاءها قبل دخول الوقت الّذي تجزئ فيه التّضحية، أو بعد دخوله وقبل تمكّنه من الذّبح، ولم يقع منه تفريطٌ ولا اعتداءٌ - لم يلزمه بدلها، لزوال ملكه عنها من حين الإيجاب، ويلزمه أن يذبحها في الوقت ويتصدّق بها كالأضحيّة، وإن لم تكن أضحيّةً‏.‏ وإذا طرأ العيب باعتدائه أو تفريطه أو تأخّره عن الذّبح في أوّل الوقت بلا عذرٍ لزمه ذبحها في الوقت والتّصدّق بها، ولزمه أيضاً أن يضحّي بأخرى لتبرأ ذمّته‏.‏ ولو اشترى شاةً وأوجبها بالنّذر أو الجعل، ثمّ وجد بها عيباً قديماً، فليس له أن يردّها على البائع، لأنّه زال ملكه عنها بمجرّد الإيجاب، فيتعيّن أن يبقيها، وله أن يأخذ أرش النّقص من البائع، ولا يجب عليه التّصدّق به، لأنّه ملكه، وعليه أن يذبحها في الوقت، ويتصدّق بها كلّها لشبهها بالأضحيّة، وإن لم تكن أضحيّةً، ويسقط عنه الوجوب بهذا الذّبح، ويسنّ له أن يردفها بسليمةٍ، لتحصل له سنّة التّضحية‏.‏ ولو زال عيبها قبل الذّبح لم تصر أضحيّةً إذ السّلامة لم توجد إلاّ بعد زوال ملكه عنها‏.‏ ومن عيّن شاةً ليضحّي بها من غير إيجابٍ بنذرٍ ولا جعلٍ، فطرأ عليها عيبٌ مخلٌّ بالإجزاء لم تجزئ التّضحية بها، ولا فرق في طروء العيب بين كونه عند الذّبح أو قبله، فلو أضجع شاةً ليضحّي بها وهي، سليمةٌ فاضطربت، وانكسرت رجلها، أو عرجت تحت السّكّين لم تجزئه على الأصحّ عند الشّافعيّة‏.‏ ومذهب الحنابلة قريبٌ من مذهب الشّافعيّة، إلاّ أنّهم يقولون‏:‏ إنّ الواجبة لا يجب التّصدّق بجميعها بل ببعضها، كما أنّهم يقولون بإجزاء التّضحية إذا عيّن شاةً صحيحةً للتّضحية، ثمّ حدث بها عيبٌ يمنع الإجزاء‏.‏

32 - الشّرط الرّابع‏:‏ أن تكون مملوكةً للذّابح، أو مأذوناً له فيها صراحةً أو دلالةً، فإن لم تكن كذلك لم تجزئ التّضحية بها عن الذّابح، لأنّه ليس مالكاً لها ولا نائباً عن مالكها، لأنّه لم يأذن له في ذبحها عنه، والأصل فيما يعمله الإنسان أن يقع للعامل، ولا يقع لغيره إلاّ بإذنه‏.‏ فلو غصب إنسانٌ شاةً، فضحّى بها عن مالكها - من غير إجازته - لم تقع أضحيّةً عنه، لعدم الإذن منه، ولو ضحّى بها عن نفسه لم تجزئ عنه، لعدم الملك، ثمّ إن أخذها صاحبها مذبوحةً، وضمّنه النّقصان، فكذلك لا تجزئ عن واحدٍ منهما‏.‏ وإن لم يأخذها صاحبها، وضمّنه قيمتها حيّةً، أجزأت عن الذّابح، لأنّه ملكها بالضّمان من وقت الغصب، فصار ذابحاً لشاةٍ هي ملكه، لكنّه آثمٌ، لأنّ ابتداء فعله وقع محظوراً، فتلزمه التّوبة والاستغفار‏.‏ وهذا قول أبي حنيفة وصاحبيه وقولٌ للمالكيّة‏.‏ وقال زفر والشّافعيّة، وهو أحد قولي المالكيّة، وأحد روايتي الحنابلة، لا تجزئ عنه، لأنّ الضّمان لا يوجب الملك عندهم‏.‏ ر‏:‏ ‏(‏غصبٌ‏)‏‏.‏

33 - ذهب الحنفيّة إلى أنّه لو اشترى إنسانٌ شاةً فأضجعها، وشدّ قوائمها للتّضحية بها، فجاء إنسانٌ آخر فذبحها بغير إذنه صحّت أضحيّةً لمالكها، لوجود الإذن منه دلالةً‏.‏ وعند الحنابلة إذا عيّن الأضحيّة فذبحها غيره بغير إذنه أجزأت عن صاحبها، ولا ضمان على ذابحها‏.‏ واشترط المالكيّة لإجزائها وجود الإذن صراحةً أو اعتياده ذلك‏.‏ ولو اشترى إنسانٌ شاةً ليضحّي بها، فلمّا ذبحها تبيّن ببيّنةٍ أنّها مستحقّةٌ - أي أنّها كانت ملك إنسانٍ غير البائع - فحكمها حكم المغصوبة، وشراؤه إيّاها بمنزلة العدم، صرّح بذلك المالكيّة والحنابلة‏.‏

34 - ولو أودع رجلٌ رجلاً شاةً، فضحّى بها عن نفسه، فاختار صاحبها القيمة فأخذها، فإنّ الشّاة لا تكون أضحيّةً عن الذّابح، بخلاف المغصوبة والمستحقّة عند أبي حنيفة وصاحبيه، ووجه الفرق أنّ سبب وجوب الضّمان في الوديعة هو الذّبح، فلا يعتبر الذّابح مالكاً إلاّ بعد الذّبح، فحين الذّبح لم يذبح ما هو مملوكٌ له، فلم يجزئه أضحيّةً، وسبب وجوب الضّمان في الغصب والاستحقاق هو الأخذ السّابق على الذّبح، والضّمان يوجب الملكيّة كما سبق، فيكون الذّابح في حالتي الغصب والاستحقاق ذابحاً ما هو مملوكٌ له فيجزئ عنه‏.‏ وما قيل في الوديعة يقال في العاريّة والمستأجرة‏.‏

النّوع الثّاني‏:‏ شرائط ترجع إلى المضحّي

يشترط في المضحّي لصحّة التّضحية ثلاثة شروطٍ

35 - الشّرط الأوّل‏:‏ نيّة التّضحية‏:‏ لأنّ الذّبح قد يكون للّحم، وقد يكون للقربة، والفعل لا يقع قربةً إلاّ بالنّيّة، قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إنّما الأعمال بالنّيّات، وإنّما لكلّ امرئٍ ما نوى»‏.‏ والمراد بالأعمال القربات، ثمّ إنّ القربات من الذّبائح أنواعٌ كثيرةٌ، كهدي التّمتّع والقران والإحصار وجزاء الصّيد وكفّارة الحلف وغير ذلك من محظورات الحجّ والعمرة، فلا تتعيّن الأضحيّة من بين هذه القربات إلاّ بنيّة التّضحية، وتكفي النّيّة بالقلب دون التّلفّظ بها كما في الصّلاة، لأنّ النّيّة عمل القلب، والذّكر باللّسان دليلٌ على ما فيه‏.‏ وقد اتّفق على هذا الشّرط الحنفيّة والمالكيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ وصرّح الشّافعيّة باستثناء المعيّنة بالنّذر، كأن قال بلسانه - من غير نيّةٍ بقلبه - للّه عليّ نذر أن أضحّي بهذه الشّاة، فإنّ نذره ينعقد باللّفظ ولو بلا نيّةٍ، ولا تشترط النّيّة عند ذبحها، بخلاف المجعولة، بأن قال بلسانه‏:‏ جعلت هذه الشّاة أضحيّةً، فإنّ إيجابه ينعقد وإن لم ينو عند النّطق، لكن لا بدّ من النّيّة عند ذبحها إن لم ينو عند النّطق‏.‏ وقالوا‏:‏ لو وكّل في الذّبح كفت نيّته ولا حاجة لنيّة الوكيل، بل لا حاجة لعلمه بأنّها أضحيّةٌ‏.‏ وقالوا أيضاً‏:‏ يجوز لصاحب الأضحيّة أن يفوّض في نيّة التّضحية مسلماً مميّزاً ينوي عند الذّبح أو التّعيين، بخلاف الكافر وغير المميّز بجنونٍ أو نحوه‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إنّ الأضحيّة المعيّنة لا تجب فيها النّيّة عند الذّبح، لكن لو ذبحها غير مالكها بغير إذنه، ونواها عن نفسه عالماً بأنّها ملك غيره لم تجزئ عنهما، أمّا مع عدم العلم فتجزئ عن المالك ولا أثر لنيّة الفضوليّ‏.‏

36 - الشّرط الثّاني‏:‏ أن تكون النّيّة مقارنةً للذّبح أو مقارنةً للتّعيين السّابق على الذّبح، سواءٌ أكان هذا التّعيين بشراء الشّاة أم بإفرازها ممّا يملكه، وسواءٌ أكان ذلك للتّطوّع أم لنذرٍ في الذّمّة، ومثله الجعل كأن يقول‏:‏ جعلت هذه الشّاة أضحيّةً، فالنّيّة في هذا كلّه تكفي عن النّيّة عند الذّبح، وأمّا المنذورة المعيّنة فلا تحتاج لنيّةٍ كما سبق‏.‏ هذا عند الشّافعيّة‏.‏ أمّا الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة فتكفي عندهم النّيّة السّابقة عند الشّراء أو التّعيين‏.‏

37 - الشّرط الثّالث‏:‏ ألاّ يشارك المضحّي فيما يحتمل الشّركة من لا يريد القربة رأساً، فإن شارك لم يصحّ عن الأضحيّة‏.‏ وإيضاح هذا، أنّ البدنة والبقرة كلٌّ منهما يجزئ عن سبعةٍ عند الجمهور كما مرّ‏.‏ فإذا اشترك فيها سبعةٌ، فلا بدّ أن يكون كلّ واحدٍ منهم مريداً للقربة، وإن اختلف نوعها‏.‏ فلو اشترى سبعةٌ أو أقلّ بدنةً، أو اشتراها واحدٌ بنيّة التّشريك فيها، ثمّ شرك فيها ستّةً أو أقلّ، وأراد واحدٌ منهم التّضحية، وآخر هدي المتعة، وثالثٌ هدي القران، ورابعٌ كفّارة الحلف، وخامسٌ كفّارة الدّم عن ترك الميقات، وسادسٌ هدي التّطوّع، وسابعٌ العقيقة عن ولده أجزأتهم البدنة‏.‏ بخلاف ما لو كان أحدهم يريد سبعها ليأكله، أو ليطعم أهله، أو ليبيعه، فلا تجزئ عن الآخرين الّذين أرادوا القربة‏.‏ هذا قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمّدٍ‏.‏ وذلك، لأنّ القربة الّتي في الأضحيّة، وفي هذه الأنواع كلّها إنّما هي في إراقة الدّم، وإراقة الدّم في البدنة الواحدة لا تتجزّأ، لأنّها ذبحٌ واحدٌ، فإن لم تكن هذه الإراقة قربةً من واحدٍ أو أكثر لم تكن قربةً من الباقين، بخلاف ما لو كانت هذه الإراقة قربةً من الجميع، وإن اختلفت جهتها، أو كان بعضها واجباً وبعضها تطوّعاً‏.‏ وقال زفر‏:‏ لا يجزئ الذّبح عن الأضحيّة أو غيرها من القرب عند الاشتراك، إلاّ إذا كان المشتركون متّفقين في جهة القربة، كأن يشترك سبعةٌ كلّهم يريد الأضحيّة، أو سبعةٌ كلّهم يريد جزاء الصّيد، فإن اختلفوا في الجهة لم يصحّ الذّبح عن واحدٍ منهم، لأنّ القياس يأبى الاشتراك، إذ الذّبح فعل واحدٍ لا يتجزّأ، فلا يتصوّر أن يقع بعضه عن جهةٍ، وبعضه عن جهةٍ أخرى، لكن عند اتّحاد الجهة يمكن أن تجعل كقربةٍ واحدةٍ، ولا يمكن ذلك عند الاختلاف، فبقي الأمر فيه مردوداً إلى القياس‏.‏ وروي عن أبي حنيفة أنّه كره الاشتراك عند اختلاف الجهة، وقال‏:‏ لو كان هذا من نوعٍ واحدٍ لكان أحبّ إليّ، وهكذا قال أبو يوسف‏.‏

38 - ولو اشترى رجلٌ بقرةً يريد أن يضحّي بها، ثمّ أشرك فيها بعد ذلك غيره، فإن كان فقيراً حين اشتراها فقد أوجبها على نفسه كما سبق، فلا يجوز أن يشرك فيها غيره‏.‏ وإن كان غنيّاً مقيماً، وقد اشتراها قبل وقت الوجوب، أو غنيّاً مسافراً فكذلك‏.‏ وإن كان غنيّاً مقيماً، واشتراها بعد وقت الوجوب فإنّ شراءها لا يوجبها كما تقدّم، فيجوز له أن يشرك فيها معه ستّةً أو أقلّ يريدون القربة، لكنّ ذلك مكروهٌ لأنّه لمّا اشتراها بنيّة التّضحية كان ذلك منه وعداً أن يضحّي بها كلّها عن نفسه، وإخلاف الوعد مكروهٌ، وينبغي في هذه الحالة أن يتصدّق بالثّمن الّذي أخذه ممّن أشركهم معه، لما روي «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم دفع إلى حكيم بن حزامٍ رضي الله عنه ديناراً، وأمره أن يشتري له أضحيّةً، فاشترى شاةً وباعها بدينارين، واشترى بأحدهما شاةً وجاء النّبيّ عليه الصلاة والسلام بشاةٍ ودينارٍ، وأخبره بما صنع، فأمره عليه الصلاة والسلام أن يضحّي بالشّاة، ويتصدّق بالدّينار» هذا كلّه مذهب الحنفيّة‏.‏ وخالفهم الشّافعيّة والحنابلة فأجازوا أن يشترك مريد التّضحية أو غيرها من القربات مع مريد اللّحم، حتّى لو كان لمريد التّضحية سبع البدنة، ولمريد الهدي سبعها، ولمريد العقيقة سبعها، ولمريد اللّحم باقيها، فذبحت بهذه النّيّات جاز، لأنّ الفعل إنّما يصير قربةً من كلّ واحدٍ بنيّته لا بنيّة شريكه، فعدم النّيّة من أحدهم لا يقدح في قربة الباقين‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ لا يجوز الاشتراك في الثّمن أو اللّحم، فإن اشترك جماعةٌ في الثّمن، بأن دفع كلّ واحدٍ منهم جزءاً منه، أو اشتركوا في اللّحم، بأن كانت الشّاة أو البدنة مشتركةً بينهم لم تجزئ عن واحدٍ منهم، بخلاف إشراكهم في الثّواب ممّن ضحّى بها قبل الذّبح كما مرّ‏.‏

وقت التّضحية مبدأٌ ونهايةٌ مبدأ الوقت

39 - قال الحنفيّة‏:‏ يدخل وقت التّضحية عند طلوع فجر يوم النّحر، وهو يوم العيد، وهذا الوقت لا يختلف في ذاته بالنّسبة لمن يضحّي في المصر أو غيره‏.‏ لكنّهم اشترطوا في صحّتها لمن يضحّي في المصر أن يكون الذّبح بعد صلاة العيد، ولو قبل الخطبة، إلاّ أنّ الأفضل تأخيره إلى ما بعد الخطبة، وإذا صلّيت صلاة العيد في مواضع من المصر كفى في صحّة التّضحية الفراغ من الصّلاة في أحد المواضع‏.‏ وإذا عطّلت صلاة العيد ينتظر حتّى يمضي وقت الصّلاة بأن تزول الشّمس، ثمّ يذبح بعد ذلك‏.‏ وأمّا من يضحّي في غير المصر فإنّه لا تشترط له هذه الشّريطة، بل يجوز أن يذبح بعد طلوع فجر يوم النّحر، لأنّ أهل غير المصر ليس عليهم صلاة العيد‏.‏ وإذا كان من عليه الأضحيّة مقيماً في المصر، ووكّل من يضحّي عنه في غيره أو بالعكس، فالعبرة بمكان الذّبح لا بمكان الموكّل المضحّي، لأنّ الذّبح هو القربة‏.‏ وقال المالكيّة، وهو أحد أقوال الحنابلة‏:‏ إنّ أوّل وقت التّضحية بالنّسبة لغير الإمام هو وقت الفراغ من ذبح أضحيّة الإمام بعد الصّلاة والخطبتين في اليوم الأوّل، وبالنّسبة للإمام هو وقت الفراغ من صلاته وخطبته، فلو ذبح الإمام قبل الفراغ من خطبتيه لم يجزئه، ولو ذبح النّاس قبل الفراغ من ذبح أضحيّة الإمام لم يجزئهم، إلاّ إذا بدءوا بعد بدئه، وانتهوا بعد انتهائه أو معه‏.‏ وإذا لم يذبح الإمام أو توانى في الذّبح بعد فراغ خطبتيه بلا عذرٍ أو بعذرٍ تحرّى النّاس القدر الّذي يمكن فيه الذّبح، ثمّ ذبحوا أضاحيّهم، فتجزئهم وإن سبقوه لكن عند التّواني بعذرٍ، كقتال عدوٍّ أو إغماءٍ أو جنونٍ يندب انتظاره حتّى يفرغ من تضحيته، إلاّ إذا قرب زوال الشّمس فينبغي للنّاس حينئذٍ أن يضحّوا ولو قبل الإمام‏.‏ ثمّ إن لم يكن في البلد إلاّ نائب الإمام الحاكم أو إمام الصّلاة فالمعتبر نائب الإمام، وإن كان فيها هذا وذاك، وأخرج نائب الإمام أضحيّته إلى المصلّى فهو المعتبر، وإلاّ فالمعتبر إمام الصّلاة، فإن لم يكن هذا ولا ذاك تحرّوا تضحية إمام أقرب البلاد إليهم إن كان واحداً، فإن تعدّد تحرّوا تضحية أقرب الأئمّة لبلدهم‏.‏ وقال الشّافعيّة، وهو أحد أقوالٍ للحنابلة‏:‏ يدخل وقت التّضحية بعد طلوع الشّمس يوم عيد النّحر بمقدار ما يسع ركعتين خفيفتين وخطبتين خفيفتين، والمراد بالخفّة الاقتصار على ما يجزئ في الصّلاة والخطبتين‏.‏ قالوا‏:‏ وإنّما لم تتوقّف صحّة التّضحية على الفراغ من صلاة الإمام وخطبتيه بالفعل لأنّ الأئمّة يختلفون تطويلاً وتقصيراً، فاعتبر الزّمان ليكون أشبه بمواقيت الصّلاة وغيرها، وأضبط للنّاس في الأمصار والقرى والبوادي، وهذا هو المراد بالأحاديث الّتي تقدّمت، «وكان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يصلّي صلاة عيد الأضحى عقب طلوع الشّمس»‏.‏ والأفضل تأخير التّضحية عن ارتفاع الشّمس قدر رمحٍ بالمقدار السّابق الذّكر‏.‏ وذهب الحنابلة في قولٍ ثالثٍ لهم وهو الأرجح، إلى أنّ وقتها يبتدئ بعد صلاة العيد ولو قبل الخطبة لكنّ الأفضل انتظار الخطبتين‏.‏ ولا يلزم انتظار الفراغ من الصّلاة في جميع الأماكن إن تعدّدت، بل يكفي الفراغ من واحدةٍ منها، وإذا كان مريد التّضحية في جهةٍ لا يصلّى فيها العيد - كالبادية وأهل الخيام ممّن لا عيد عليهم - فالوقت يبتدئ بعد مضيّ قدر صلاة العيد من ارتفاع الشّمس قدر رمحٍ‏.‏ وإذا فاتت صلاة العيد بالزّوال في الأماكن الّتي تصلّى فيها ضحّوا من حين الفوات‏.‏

نهاية وقت التّضحية

40 - ذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى أنّ أيّام التّضحية ثلاثةٌ، وهي يوم العيد، واليومان الأوّلان من أيّام التّشريق، فينتهي وقت التّضحية بغروب شمس اليوم الأخير من الأيّام المذكورة، وهو ثاني أيّام التّشريق‏.‏ واحتجّوا بأنّ عمر وعليّاً وأبا هريرة وأنساً وابن عبّاسٍ وابن عمر رضي الله عنهم أخبروا أنّ أيّام النّحر ثلاثةٌ‏.‏ ومعلومٌ أنّ المقادير لا يهتدى إليها بالرّأي، فلا بدّ أن يكون هؤلاء الصّحابة الكرام أخبروا بذلك سماعاً‏.‏ وقال الشّافعيّة - وهو القول الآخر للحنابلة واختاره ابن تيميّة - أيّام التّضحية أربعةٌ، تنتهي بغروب شمس اليوم الثّالث من أيّام التّشريق، وهذا القول مرويٌّ عن عليٍّ وابن عبّاسٍ رضي الله عنهم أيضاً، ومرويٌّ كذلك عن جبير بن مطعمٍ رضي الله عنه، وعن عطاءٍ والحسن البصريّ وعمر بن عبد العزيز وسليمان بن موسى الأسديّ ومكحولٍ‏.‏ وحجّة القائلين بهذا قوله عليه الصلاة والسلام‏:‏ «كلّ أيّام التّشريق ذبحٌ»‏.‏

التّضحية في ليالي أيّام النّحر

41 - أمّا ليلة عيد الأضحى فليست وقتاً للتّضحية بلا خلافٍ، وكذلك اللّيلة المتأخّرة من أيّام النّحر، وإنّما الخلاف في اللّيلتين أو اللّيالي المتوسّطة بين أيّام النّحر‏.‏ فالمالكيّة يقولون‏:‏ لا تجزئ التّضحية الّتي تقع في اللّيلتين المتوسّطتين، وهما ليلتا يومي التّشريق من غروب الشّمس إلى طلوع الفجر‏.‏ وهذا أحد قولي الحنابلة‏.‏ وقال الحنابلة والشّافعيّة‏:‏ إنّ التّضحية في اللّيالي المتوسّطة تجزئ مع الكراهة، لأنّ الذّابح قد يخطئ المذبح، وإليه ذهب إسحاق وأبو ثورٍ والجمهور‏.‏ وهو أصحّ القولين عند الحنابلة‏.‏ واستثنى الشّافعيّة من كراهية التّضحية ليلاً ما لو كان ذلك لحاجةٍ، كاشتغاله نهاراً بما يمنعه من التّضحية، أو مصلحةٍ كتيسّر الفقراء ليلاً، أو سهولة حضورهم‏.‏

ما يجب بفوات وقت التّضحية

42 - ولمّا كانت القربة في الأضحيّة بإراقة الدّم، وكانت هذه الإراقة لا يعقل السّرّ في التّقرّب بها، وجب الاقتصار في التّقرّب بها على الوقت الّذي خصّها الشّارع به‏.‏ فلا تقضى بعينها بعد فوات وقتها، بل ينتقل التّغرّب إلى التّصدّق بعين الشّاة حيّةً، أو بقيمتها أو بقيمة أضحيّةٍ مجزئةٍ، فمن عيّن أضحيّةً شاةً أو غيرها بالنّذر أو بالشّراء بالنّيّة فلم يضحّ بها حتّى مضت أيّام النّحر وجب عليه أن يتصدّق بها حيّةً، لأنّ الأصل في الأموال التّقرّب بالتّصدّق بها لا بالإتلاف وهو الإراقة‏.‏ إلاّ أنّ الشّارع نقله إلى إراقة دمها مقيّدةً بوقتٍ مخصوصٍ حتّى أنّه يحلّ أكل لحمها للمالك والأجنبيّ والغنيّ والفقير، لأنّ النّاس أضياف اللّه تعالى في هذا الوقت‏.‏

43 - ومن وجب عليه التّصدّق بالبهيمة حيّةً لم يحلّ له ذبحها ولا الأكل منها ولا إطعام الأغنياء ولا إتلاف شيءٍ منها، فإن ذبحها وجب عليه التّصدّق بها مذبوحةً، فإن كانت قيمتها بعد الذّبح أقلّ من قيمتها حيّةً تصدّق بالفرق بين القيمتين فضلاً عن التّصدّق بها‏.‏ فإن أكل منها بعد الذّبح شيئاً أو أطعم منها غنيّاً أو أتلف شيئاً وجب عليه التّصدّق بقيمته‏.‏

44 - ومن وجبت عليه التّضحية ولم يضحّ حتّى فات الوقت ثمّ حضرته الوفاة وجب عليه أن يوصي بالتّصدّق بقيمة شاةٍ من ثلث ماله، لأنّ الوصيّة هي الطّريق إلى تخليصه من عهدة الواجب‏.‏ هذا كلّه مذهب الحنفيّة‏.‏ وللإيصاء بالتّضحية صورٌ نكتفي بالإشارة إليها، ولتفصيلها وبيان أحكامها ‏(‏ر‏:‏ وصيّةٌ‏)‏‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ من لم يضحّ حتّى فات الوقت فإن كانت مسنونةً - وهو الأصل - لم يضحّ، وفاتته تضحية هذا العام، فإن ذبح ولو بنيّة التّضحية لم تكن ذبيحته أضحيّةً، ويثاب على ما يعطي الفقراء منها ثواب الصّدقة‏.‏ وإن كانت منذورةً لزمه أن يضحّي قضاءً، وهو رأيٌ لبعض المالكيّة، لأنّها قد وجبت عليه فلم تسقط بفوات الوقت، فإذا وجبت الأضحيّة بإيجابه لها فضلّت أو سرقت بغير تفريطٍ منه فلا ضمان عليه، لأنّها أمانةٌ في يده، فإن عادت إليه ذبحها سواءٌ أكانت عودتها في زمن الأضحيّة أو بعده‏.‏ فإذا مضى الوقت ولم يضحّ بالشّاة المعيّنة عاد الحكم إلى الأصل، وهو التّصدّق بعين الأضحيّة حيّةً سواءٌ أكان الّذي عيّنها موسراً أم معسراً أو بقيمتها‏.‏ وفي هذه الحال لا تحلّ له ولا لأصله ولا لفرعه ولا لغنيٍّ‏.‏

ما يستحبّ قبل التّضحية

45 - يستحبّ قبل التّضحية أمورٌ‏:‏

1 - أن يربط المضحّي الأضحيّة قبل يوم النّحر بأيّامٍ، لما فيه من الاستعداد للقربة وإظهار الرّغبة فيها، فيكون له فيه أجرٌ وثوابٌ‏.‏

2 - أن يقلّدها ويجلّلها قياساً على الهدي، لأنّ ذلك يشعر بتعظيمها، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّها من تقوى القلوب‏}‏‏.‏

3 - أن يسوقها إلى مكان الذّبح سوقاً جميلاً لا عنيفاً ولا يجرّ برجلها إليه، لأنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إنّ اللّه تعالى كتب الإحسان على كلّ شيءٍ، فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذّبحة، وليحدّ أحدكم شفرته، وليرح ذبيحته»‏.‏

4 - وقال المالكيّة والشّافعيّة‏:‏ يسنّ لمن يريد التّضحية ولمن يعلم أنّ غيره يضحّي عنه ألاّ يزيل شيئاً من شعر رأسه أو بدنه بحلقٍ أو قصٍّ أو غيرهما، ولا شيئاً من أظفاره بتقليمٍ أو غيره، ولا شيئاً من بشرته كسلعةٍ لا يضرّه بقاؤها، وذلك من ليلة اليوم الأوّل من ذي الحجّة إلى الفراغ من ذبح الأضحيّة‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إنّ ذلك واجبٌ، لا مسنونٌ، وحكي الوجوب عن سعيد بن المسيّب وربيعة وإسحاق‏.‏ ونقل ابن قدامة عن الحنفيّة عدم الكراهة‏.‏ وعلى القول بالسّنّيّة يكون الإقدام على هذه الأمور مكروهاً تنزيهاً، وعلى القول بالوجوب يكون محرّماً‏.‏ والأصل في ذلك حديث أمّ سلمة رضي الله عنها «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ إذا دخل العشر وأراد أحدكم أن يضحّي فلا يمسّ من شعره ولا من بشره شيئاً»‏.‏ وفي روايةٍ أخرى عنها رضي الله عنها أنّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «إذا رأيتم هلال ذي الحجّة وأراد أحدكم أن يضحّي فليمسك عن شعره وأظفاره»‏.‏ والقائلون بالسّنّيّة جعلوا النّهي للكراهة‏.‏ والحديث الدّالّ على عدم تحريم الفعل هو حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ «كنت أفتل قلائد هدي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثمّ يقلّده ويبعث به ولا يحرم عليه شيءٌ أحلّه اللّه له حتّى ينحر هديه»‏.‏ قال الشّافعيّ‏:‏ البعث بالهدي، أكثر من إرادة التّضحية فدلّ على أنّه لا يحرم ذلك‏.‏ والحكمة في مشروعيّة الإمساك عن الشّعر والأظفار ونحوهما قيل‏:‏ إنّها التّشبّه بالمحرم بالحجّ، والصّحيح‏:‏ أنّ الحكمة أن يبقى مريد التّضحية كامل الأجزاء رجاء أن يعتق من النّار بالتّضحية‏.‏

ما يكره قبل التّضحية

ذهب الحنفيّة إلى أنّه يكره تحريماً قبل التّضحية أمورٌ‏:‏

46 - الأمر الأوّل‏:‏ حلب الشّاة الّتي اشتريت للتّضحية أو جزّ صوفها، سواءٌ أكان الّذي اشتراها موسراً أم معسراً، وكذا الشّاة الّتي تعيّنت بالنّذر، كأن قال‏:‏ للّه عليّ أن أضحّي بهذه، أو قال‏:‏ جعلت هذه أضحيّةً‏.‏ وإنّما كره ذلك، لأنّه عيّنها للقربة فلا يحلّ الانتفاع بها قبل إقامة القربة فيها، كما لا يحلّ له الانتفاع بلحمها إذا ذبحها قبل وقتها، ولأنّ الحلب والجزّ يوجبان نقصاً فيها والأضحيّة يمتنع إدخال النّقص فيها‏.‏ واستثنى بعضهم الشّاة الّتي اشتراها الموسر بنيّة التّضحية، لأنّ شراءه إيّاها لم يجعلها واجبةً، إذ الواجب عليه شاةٌ في ذمّته كما تقدّم‏.‏ وهذا الاستثناء ضعيفٌ، فإنّها متعيّنةٌ للقربة ما لم يقم غيرها مقامها، فقبل أن يذبح غيرها بدلاً منها لا يجوز له أن يحلبها، ولا أن يجزّ صوفها للانتفاع به‏.‏ ولهذا لا يحلّ له لحمها إذا ذبحها قبل وقتها‏.‏ فإن كان في ضرع الأضحيّة المعيّنة لبنٌ وهو يخاف عليها الضّرر والهلاك إن لم يحلبها نضح ضرعها بالماء البارد حتّى يتقلّص اللّبن، لأنّه لا سبيل إلى الحلب‏.‏ فإن حلبه تصدّق باللّبن، لأنّه جزءٌ من شاةٍ متعيّنةٍ للقربة‏.‏ فإن لم يتصدّق به حتّى تلف أو شربه مثلاً وجب عليه التّصدّق بمثله أو بقيمته‏.‏ وما قيل في اللّبن يقال في الصّوف والشّعر والوبر‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يكره - أي تنزيهاً - شرب لبن الأضحيّة بمجرّد شرائها أو تعيينها من بين بهائمه للتّضحية، ويكره أيضاً جزّ صوفها قبل الذّبح، لما فيه من نقص جمالها، ويستثنى من ذلك صورتان‏:‏

أولاهما‏:‏ أن يعلم أنّه ينبت مثله أو قريبٌ منه قبل الذّبح‏.‏

ثانيتهما‏:‏ أن يكون قد أخذها بالشّراء ونحوه، أو عيّنها للتّضحية بها من بين بهائمه ناوياً جزّ صوفها، ففي هاتين الصّورتين لا يكره جزّ الصّوف‏.‏ وإذا جزّه في غير هاتين الصّورتين كره له بيعه‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ لا يشرب من لبن الأضحيّة إلاّ الفاضل عن ولدها، فإن لم يفضل عنه شيءٌ أو كان الحلب يضرّ بها أو ينقص لحمها لم يكن له أخذه، وإن لم يكن كذلك فله أخذه والانتفاع به‏.‏ وقالوا أيضاً‏:‏ إن كان بقاء الصّوف لا يضرّ بها أو كان أنفع من الجزّ لم يجز له أخذه، وإن كان يضرّ بها أو كان الجزّ أنفع منه جاز الجزّ ووجب التّصدّق بالمجزوز‏.‏

47 - الأمر الثّاني‏:‏ من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - بيع الشّاة المتعيّنة للقربة بالشّراء أو بالنّذر، وإنّما كره بيعها، لأنّها تعيّنت للقربة، فلم يحلّ الانتفاع بثمنها كما لم يحلّ الانتفاع بلبنها وصوفها، ثمّ إنّ البيع مع كراهته ينفذ عند أبي حنيفة ومحمّدٍ، لأنّه بيع مالٍ مملوكٍ منتفعٍ به مقدورٍ على تسليمه، وعند أبي يوسف لا ينفذ، لأنّه بمنزلة الوقف‏.‏ وبناءً على نفاذ بيعها فعليه مكانها مثلها أو أرفع منها فيضحّي بها، فإن فعل ذلك فليس عليه شيءٌ آخر، وإن اشترى دونها فعليه أن يتصدّق بفرق ما بين القيمتين، ولا عبرة بالثّمن الّذي حصل به البيع والشّراء إن كان مغايراً للقيمة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يحرم بيع الأضحيّة المعيّنة بالنّذر وإبدالها، وأمّا الّتي لم تتعيّن بالنّذر فيكره أن يستبدل بها ما هو مثلها أو أقلّ منها‏.‏ فإذا اختلطت مع غيرها واشتبهت وكان بعض المختلط أفضل من بعضٍ كره له ترك الأفضل بغير قرعةٍ‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يجوز بيع الأضحيّة الواجبة ولا إبدالها ولو بخيرٍ منها، وإلى هذا ذهب أبو ثورٍ واختاره أبو الخطّاب من الحنابلة‏.‏ ولكنّ المنصوص عن أحمد - وهو الرّاجح عند الحنابلة - أنّه يجوز أن يبدّل الأضحيّة الّتي أوجبها بخيرٍ منها، وبه قال عطاءٌ ومجاهدٌ وعكرمة‏.‏

47 - الأمر الثّالث‏"‏ م‏"‏‏:‏ - من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - بيع ما ولد للشّاة المتعيّنة بالنّذر أو بالشّراء بالنّيّة، وإنّما كره بيعه، لأنّ أمّه تعيّنت للأضحيّة، والولد يتبع الأمّ في الصّفات الشّرعيّة كالرّقّ والحرّيّة، فكان يجب الإبقاء عليه حتّى يذبح معها‏.‏ فإذا باعه وجب عليه التّصدّق بثمنه‏.‏ وقال القدوريّ‏:‏ يجب ذبح الولد، ولو تصدّق به حيّاً جاز، لأنّ الحقّ لم يسر إليه ولكنّه متعلّقٌ به، فكان كجلّها وخطامها، فإن ذبحه تصدّق بقيمته، وإن باعه تصدّق بثمنه‏.‏ وفي الفتاوى الخانيّة أنّه يستحبّ التّصدّق به حيّاً، ويجوز ذبحه، وإذا ذبح وجب التّصدّق به، فإن أكل منه تصدّق بقيمة ما أكل‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يحرم بيع ولد الأضحيّة المعيّنة بالنّذر، ويندب ذبح ولد الأضحيّة مطلقاً، سواءٌ أكانت معيّنةً بالنّذر أم لا إذا خرج قبل ذبحها، فإذا ذبح سلك به مسلك الأضحيّة، وإذا لم يذبح جاز إبقاؤه وصحّت التّضحية به في عامٍ آخر‏.‏ وأمّا الولد الّذي خرج بعد الذّبح، فإن خرج ميّتاً، وكان قد تمّ خلقه ونبت شعره كان كجزءٍ من الأضحيّة، وإن خرج حيّاً حياةً محقّقةً وجب ذبحه لاستقلاله بنفسه‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ إذا نذر شاةً معيّنةً أو قال‏:‏ جعلت هذه الشّاة أضحيّةً، أو نذر أضحيّةً في الذّمّة ثمّ عيّن شاةً عمّا في ذمّته، فولدت الشّاة المذكورة وجب ذبح ولدها في الصّور الثّلاث، والأصحّ أنّه لا يجب تفرقته على الفقراء بخلاف أمّه، إلاّ إذا ماتت أمّه فيجب تفرقته عليهم، وولد الأضحيّة في غير هذه الصّور الثّلاث لا يجب ذبحه، وإذا ذبح لم يجب التّصدّق بشيءٍ منه، ويجوز فيه الأكل والتّصدّق والإهداء، وإذا تصدّق بشيءٍ منه لم يغن عن وجوب التّصدّق بشيءٍ منها‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ إذا عيّن أضحيّةً فولدت فولدها تابعٌ لها، حكمه حكمها، سواءٌ أكانت حاملاً به حين التّعيين، أو حدث الحمل بعده، فيجب ذبحه في أيّام النّحر، وقد روي عن عليٍّ رضي الله عنه أنّ رجلاً سأله فقال‏:‏ يا أمير المؤمنين إنّي اشتريت هذه البقرة لأضحّي بها، وإنّها وضعت هذا العجل ‏؟‏ فقال عليٌّ‏:‏ لا تحلبها إلاّ فضلاً عن تيسير ولدها فإذا كان يوم الأضحى فاذبحها وولدها عن سبعةٍ‏.‏

48 - الأمر الرّابع‏:‏ - من الأمور الّتي تكره تحريماً عند الحنفيّة قبل التّضحية - ركوب الأضحيّة واستعمالها والحمل عليها‏.‏ فإن فعل شيئاً منها أثم، ولم يجب عليه التّصدّق بشيءٍ، إلاّ أن يكون هذا الفعل نقّص قيمتها، فعليه أن يتصدّق بقيمة النّقص‏.‏ فإن آجرها للرّكوب أو الحمل تصدّق بقيمة النّقص فضلاً عن تصدّقه بالكراء‏.‏ وللمالكيّة في إجارة الأضحيّة قبل ذبحها قولان‏:‏

أحدهما‏:‏ المنع

وثانيهما‏:‏ الجواز وهو المعتمد‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يجوز لصاحب الأضحيّة الواجبة ركوبها وإركابها بلا أجرةٍ، وإن تلفت أو نقصت بذلك ضمنها‏.‏ لكن إن حصل ذلك في يد المستعير ضمنها المستعير، وإنّما يضمنها هو أو المستعير إذا تلفت أو نقصت بعد دخول الوقت والتّمكّن من الذّبح، أمّا قبله فلا ضمان، لأنّها أمانةٌ في يد المعير، ومن المعلوم أنّ المستعير إنّما يضمن إذا لم تكن يد معيره يد أمانةٍ‏.‏

49 - هذا وهناك مكروهاتٌ ذكرت في غير كتب الحنفيّة‏:‏ منها‏:‏ ما صرّح به المالكيّة من أنّ التّغالي بكثرة ثمنها زيادةٌ على عادة أهل البلد يكره - أي تنزيهاً - لأنّ شأن ذلك المباهاة‏.‏ وكذا زيادة العدد‏.‏ فإن نوى بزيادة الثّمن أو العدد الثّواب وكثرة الخير لم يكره بل يندب‏.‏

ما يستحبّ وما يكره عند إرادة التّضحية

50 - لمّا كانت التّضحية نوعاً من التّذكية، كانت مستحبّات التّذكية من ذبحٍ ونحرٍ مستحبّةً فيها، ومكروهاتها مكروهةٌ فيها‏.‏ ولتفصيل ما يستحبّ وما يكره في التّذكية ‏(‏ر‏:‏ ذبائح‏)‏‏.‏ وللتّضحية مستحبّاتٌ ومكروهاتٌ خاصّةٌ تكون عندها، وهي إمّا أن ترجع إلى الأضحيّة، أو إلى المضحّي، أو إلى الوقت‏.‏ ولنذكر ذلك في ثلاثة مباحث‏:‏ ما يرجع إلى الأضحيّة من المستحبّات والمكروهات عند التّضحية‏:‏

51 - يستحبّ في الأضحيّة أن تكون أسمن وأعظم بدناً من غيرها، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ومن يعظّم شعائر اللّه فإنّها من تقوى القلوب‏}‏‏.‏ ومن تعظيمها أن يختارها صاحبها عظيمة البدن سمينةً‏.‏ وإذا اختار التّضحية بالشّياه، فأفضلها الكبش الأملح الأقرن الموجوء ‏(‏أي المخصيّ‏)‏، لحديث أنسٍ رضي الله عنه‏:‏ «ضحّى النّبيّ صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين»، ولأنّه صلى الله عليه وسلم «ضحّى بكبشين أملحين موجوءين»، والأقرن‏:‏ العظيم القرن، والأملح‏:‏ الأبيض، والموجوء‏:‏ قيل‏:‏ هو المدقوق الخصيتين، وقيل‏:‏ هو الخصيّ، وفي الحديث أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «دم عفراء أحبّ إلى اللّه من دم سوداوين»‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ الشّاة أفضل من سبع البقرة‏.‏ بل أفضل من البقرة إن استوتا في القيمة ومقدار اللّحم‏.‏ والأصل في هذا أنّ ما استويا في مقدار اللّحم والقيمة فأطيبهما لحماً أفضل‏.‏ وما اختلفا فيهما فالفاضل أولى، والذّكر من الضّأن والمعز إذا كان موجوءاً فهو أولى من الأنثى، وإلاّ فالأنثى أفضل عند الاستواء في القيمة ومقدار اللّحم‏.‏ والأنثى من الإبل والبقر أفضل من الذّكر عند استواء اللّحم والقيمة‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يندب أن تكون جيّدةً، بأن تكون أعلى النّعم، وأن تكون سمينةً، ويندب أيضاً تسمينها، لحديث أبي أمامة رضي الله عنه‏.‏«قال‏:‏ كنّا نسمّن الأضحيّة بالمدينة، وكان المسلمون يسمّنون»‏.‏ والذّكر أفضل من الأنثى، والأقرن أفضل من الأجمّ، ويفضّل الأبيض على غيره، والفحل على الخصيّ إن لم يكن الخصيّ أسمن، وأفضل الأضاحيّ ضأنٌ مطلقاً‏:‏ فحله، فخصيّه، فأنثاه، فمعزٌ كذلك، واختلف فيما يليهما أهي الإبل أم البقر‏.‏ والحقّ أنّ ذلك يختلف باختلاف البلاد، ففي بعضها تكون الإبل أطيب لحماً فتكون أفضل، وفي بعضها يكون البقر أطيب لحماً فيكون أفضل‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ أفضل الأضاحيّ سبع شياهٍ، فبدنةٌ فبقرةٌ، فشاةٌ واحدةٌ، فسبع بدنةٍ، فسبع بقرةٍ، والضّأن أفضل من المعز، والذّكر الّذي لم ينز أفضل من الأنثى الّتي لم تلد، ويليهما الذّكر الّذي ينزو، فالأنثى الّتي تلد‏.‏ والبيضاء أفضل، فالعفراء، فالصّفراء، فالحمراء، فالبلقاء، ويلي ذلك السّوداء‏.‏ ويستحبّ تسمين الأضحيّة‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ أفضل الأضاحيّ البدنة، ثمّ البقرة، ثمّ الشّاة، ثمّ شركٌ في بدنةٍ، ثمّ شركٌ في بقرةٍ‏.‏

52 - ويكره في الأضحيّة أن تكون معيبةً بعيبٍ لا يخلّ بالإجزاء‏.‏ ما يستحبّ في التّضحية من أمورٍ ترجع إلى المضحّي‏:‏

53 - أن يذبح بنفسه إن قدر عليه، لأنّه قربةٌ، ومباشرة القربة أفضل من تفويض إنسانٍ آخر فيها، فإن لم يحسن الذّبح فالأولى توليته مسلماً يحسنه، ويستحبّ في هذه الحالة أن يشهد الأضحيّة لقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة رضي الله عنها‏:‏ «يا فاطمة قومي إلى أضحيّتك فاشهديها»‏.‏ وقد اتّفقت المذاهب على هذا‏.‏ غير أنّ الشّافعيّة قالوا‏:‏ الأفضل للأكثر والخنثى والأعمى التّوكيل وإن قدروا على الذّبح‏.‏ ولهذه النّقطة تتمّةٌ ستأتي‏.‏

54 - أن يدعو فيقول‏:‏ ‏(‏اللّهمّ منك ولك، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت، وأنا من المسلمين‏)‏ لأنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم أمر فاطمة رضي الله عنها أن تقول‏:‏ «إنّ صلاتي ونسكي‏.‏‏.‏‏.‏» إلخ‏.‏ ولحديث جابرٍ رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ «ذبح النّبيّ صلى الله عليه وسلم يوم الذّبح كبشين أقرنين أملحين موجوءين فلمّا وجّههما قال‏:‏ إنّي وجّهت وجهي للّذي فطر السّموات والأرض على ملّة إبراهيم حنيفاً وما أنا من المشركين، إنّ صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه ربّ العالمين لا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين‏.‏ اللّهمّ منك ولك عن محمّدٍ وأمّته، بسم اللّه واللّه أكبر ثمّ ذبح»‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة‏.‏ وقال المالكيّة يكره قول المضحّي عند التّسمية ‏"‏ اللّهمّ منك وإليك ‏"‏، لأنّه لم يصحبه عمل أهل المدينة‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يستحبّ بعد التّسمية التّكبير ثلاثاً والصّلاة والسّلام على رسول اللّه صلى الله عليه وسلم والدّعاء بالقبول، بأن يقول‏:‏ اللّهمّ هذا منك وإليك، واختلفوا في إكمال التّسمية بأن يقال‏:‏ ‏(‏الرّحمن الرّحيم‏)‏ فقيل‏:‏ لا يستحبّ، لأنّ الذّبح لا تناسبه الرّحمة، وقيل‏:‏ يستحبّ وهو أكمل، لأنّ في الذّبح رحمةً بالآكلين‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يقول المضحّي عند الذّبح‏:‏ ‏(‏بسم اللّه واللّه أكبر‏)‏‏.‏ والتّسمية واجبةٌ عند التّذكّر والقدرة، والتّكبير مستحبٌّ، فقد ثبت أنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا ذبح قال‏:‏ بسم اللّه واللّه أكبر»‏.‏ وفي حديث أنسٍ «وسمّى وكبّر» وإن زاد فقال‏:‏ اللّهمّ هذا منك ولك، اللّهمّ تقبّل منّي أو من فلانٍ فحسنٌ، لأنّ «النّبيّ صلى الله عليه وسلم أتي بكبشٍ له ليذبحه فأضجعه ثمّ قال‏:‏ اللّهمّ تقبّل من محمّدٍ وآل محمّدٍ وأمّة محمّدٍ ثمّ ضحّى به»‏.‏

55 - أن يجعل الدّعاء المذكور قبل ابتداء الذّبح أو بعد انتهائه ويخصّ حالة الذّبح بالتّسمية مجرّدةً‏.‏ هكذا قال الحنفيّة‏.‏ ويكره عند الحنفيّة خلط التّسمية بكلامٍ آخر حالة الذّبح ولو كان دعاءً، لأنّه ينبغي كما تقدّم أن تجعل الأدعية سابقةً على ابتداء الذّبح أو متأخّرةً عن الفراغ منه‏.‏

ما يرجع إلى وقت التّضحية من المستحبّات والمكروهات

56 - تستحبّ المبادرة إلى التّضحية، فالتّضحية في اليوم الأوّل أفضل منها فيما يليه، لأنّها مسارعةٌ إلى الخير، وقد قال اللّه تعالى‏:‏ ‏{‏وسارعوا إلى مغفرةٍ من ربّكم وجنّةٍ عرضها السّموات والأرض أعدّت للمتّقين‏}‏‏.‏ والمقصود المسارعة إلى سبب المغفرة والجنّة، وهو العمل الصّالح‏.‏ وهذا متّفقٌ عليه بين المذاهب، غير أنّ للمالكيّة تفصيلاً وهو أنّ التّضحية قبل الزّوال في كلّ يومٍ أفضل منها بعد الزّوال، والتّضحية من ارتفاع الشّمس إلى ما قبل الزّوال في اليومين الثّاني والثّالث أفضل من التّضحية قبل ذلك من الفجر إلى الارتفاع، وقد تردّدوا في التّضحية بين زوال اليوم الثّاني وغروبه، والتّضحية بين فجر اليوم الثّالث وزواله، أيّتهما أفضل ‏؟‏ والرّاجح‏:‏ أنّ التّضحية في الوقت الأوّل أفضل، ولا تضحية عندهم في اللّيل كما تقدّم‏.‏ وتقدّم أيضاً أنّ التّضحية في اللّيل تكره عند الحنفيّة والشّافعيّة والحنابلة‏.‏ ومعلومٌ ممّا تقدّم أنّ من الفقهاء من لا يجيز لأهل القرى أن يضحّوا إلاّ في الوقت الّذي يضحّي فيه أهل المدن‏.‏

ما يستحبّ وما يكره بعد التّضحية‏:‏

أ - يستحبّ للمضحّي بعد الذّبح أمورٌ‏:‏

57 - منها‏:‏ أن ينتظر حتّى تسكن جميع أعضاء الذّبيحة فلا ينخع ولا يسلخ قبل زوال الحياة عن جميع جسدها‏.‏

58 - ومنها‏:‏ أن يأكل منها ويطعم ويدّخر، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏وأذّن في النّاس بالحجّ يأتوك رجالاً وعلى كلّ ضامرٍ يأتين من كلّ فجٍّ عميقٍ، ليشهدوا منافع لهم ويذكروا اسم اللّه في أيّامٍ معلوماتٍ على ما رزقهم من بهيمة الأنعام، فكلوا منها وأطعموا البائس الفقير‏}‏‏.‏ وقوله عزّ وجلّ‏:‏ ‏{‏والبدن جعلناها لكم من شعائر اللّه، لكم فيها خيرٌ، فاذكروا اسم اللّه عليها صوافّ، فإذا وجبت جنوبها فكلوا منها وأطعموا القانع والمعترّ‏}‏‏.‏

ولقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا ضحّى أحدكم فليأكل من أضحيّته»‏.‏

59 - والأفضل أن يتصدّق بالثّلث، ويتّخذ الثّلث ضيافةً لأقاربه وأصدقائه، ويدّخر الثّلث، وله أن يهب الفقير والغنيّ، وقد صحّ عن ابن عبّاسٍ رضي الله عنهما في صفة أضحيّة النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ويطعم أهل بيته الثّلث، ويطعم فقراء جيرانه الثّلث، ويتصدّق على السّؤال بالثّلث»‏.‏ قال الحنفيّة‏:‏ ولو تصدّق بالكلّ جاز، ولو حبس الكلّ لنفسه جاز، لأنّ القربة في إراقة الدّم، وله أن يزيد في الادّخار عن ثلاث ليالٍ، لأنّ نهي النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن ذلك كان من أجل الدّافّة، وهم جماعةٌ من الفقراء دفّت ‏(‏أي نزلت‏)‏ بالمدينة، فأراد النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يتصدّق أهل المدينة عليهم بما فضل عن أضاحيّهم، فنهى عن الادّخار فوق ثلاثة أيّامٍ‏.‏ ففي حديث عائشة رضي الله عنها أنّها قالت‏:‏ «قالوا يا رسول اللّه‏:‏ إنّ النّاس يتّخذون الأسقية من ضحاياهم ويجعلون فيها الودك، قال‏:‏ وما ذاك ‏؟‏ قالوا‏:‏ نهيت أن تؤكل لحوم الأضاحيّ بعد ثلاثٍ، فقال‏:‏ إنّما نهيتكم من أجل الدّافّة الّتي دفّت، فكلوا، وادّخروا وتصدّقوا»‏.‏ وفي حديث سلمة بن الأكوع رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «من ضحّى منكم فلا يصبحنّ بعد ثالثةٍ وفي بيته منه شيءٌ، فلمّا كان العام المقبل‏.‏ قالوا يا رسول اللّه نفعل كما فعلنا عام الماضي ‏؟‏ قال‏:‏ كلوا وأطعموا وادّخروا، فإنّ ذلك العام كان بالنّاس جهدٌ، فأردت أن تعينوا فيها»‏.‏ وإطعامها والتّصدّق بها أفضل من ادّخارها، إلاّ أن يكون المضحّي ذا عيالٍ وهو غير موسّع الحال، فإنّ الأفضل له حينئذٍ أن يدّخره لعياله توسعةً عليهم، لأنّ حاجته وحاجة عياله مقدّمةٌ على حاجة غيرهم، لقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «ابدأ بنفسك فتصدّق عليها، فإن فضل شيءٌ فلأهلك، فإن فضل شيءٌ عن أهلك فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيءٌ فهكذا وهكذا»‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة‏.‏

60 - وهاهنا تنبيهٌ مهمٌّ وهو أنّ أكل المضحّي من الأضحيّة وإطعام الأغنياء والادّخار لعياله تمتنع كلّها عند الحنفيّة في صورٍ‏.‏

منها‏:‏ الأضحيّة المنذورة، وهو مذهب الشّافعيّة أيضاً‏.‏ وذهب المالكيّة والحنابلة إلى أنّ المنذورة كغيرها في جواز الأكل‏.‏

ومنها‏:‏ أن يمسك عن التّضحية بالشّاة الّتي عيّنها للتّضحية بالنّذر أو بالنّيّة عند الشّراء حتّى تغرب شمس اليوم الثّالث فيجب التّصدّق بها حيّةً‏.‏

ومنها‏:‏ أن يضحّي عن الميّت بأمره فيجب التّصدّق بالأضحيّة كلّها على المختار‏.‏

ومنها‏:‏ أن تلد الأضحيّة فيجب ذبح الولد على قولٍ، وإذا ذبح وجب التّصدّق به كلّه، لأنّه لم يبلغ السّنّ الّتي تجزئ التّضحية فيها، فلا تكون القربة بإراقة دمه، فتعيّن أن تكون القربة بالتّصدّق به، ولهذا قيل‏:‏ إنّ المستحبّ في الولد التّصدّق به حيّاً‏.‏

ومنها‏:‏ أن يشترك في البدنة سبعةٌ أو أقلّ، وينوي بعضهم بنصيبه القضاء عن أضحيّةٍ فاتته من عامٍ أو أعوامٍ مضت، فيجب على جميع الشّركاء التّصدّق بجميع حصصهم، لأنّ الّذي نوى القضاء لم تصحّ نيّته، فكان نصيبه تطوّعاً محضاً وهو لم ينو التّقرّب بإراقة الدّم، لأنّ من وجب عليه القضاء إنّما يقضي بالتّصدّق بالقيمة، ونصيب المضحّي الّذي نوى القضاء شائعٌ في البدنة كلّها، فلا سبيل للّذي نوى الأداء أن يأكل شيئاً منها، فلا بدّ من التّصدّق بجميعها‏.‏ وقال المالكيّة‏:‏ يندب للمضحّي الجمع بين الأكل من أضحيّته والتّصدّق والإهداء بلا حدٍّ في ذلك بثلثٍ ولا غيره ولم يفرّقوا بين منذورةٍ وغيرها‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ يجب بعد ذبح الأضحيّة الواجبة بالنّذر أو الجعل والمعيّنة عن المنذور في الذّمّة التّصدّق بها كلّها، وأمّا غير الواجبة فيجب بعد الذّبح التّصدّق بجزءٍ من لحمها نيئاً غير قديدٍ ولا تافهٍ جدّاً‏.‏ وزاد الحنابلة أنّه إذا لم يتصدّق حتّى فاتت ضمن للفقراء ثمن أقلّ ما لا يعتبر تافهاً‏.‏ فلا يكفي التّصدّق بشيءٍ من الشّحم أو الكبد أو نحوهما ولا التّصدّق بمطبوخٍ، ولا التّصدّق بقديدٍ وهو المجفّف، ولا التّصدّق بجزءٍ تافهٍ جدّاً ليس له وقعٌ‏.‏ ووجوب التّصدّق هو أحد وجهين وهو أصحّهما، ويكفي في التّصدّق الإعطاء، ولا يشترط النّطق بلفظ التّمليك ونحوه، وما عدا الجزء المتصدّق به يجوز فيه الأكل والإهداء لمسلمٍ والتّصدّق على مسلمٍ فقيرٍ‏.‏ والأفضل التّصدّق بها كلّها إلاّ لقماً يسيرةً يأكلها ندباً للتّبرّك، والأولى أن تكون هذه اللّقم من الكبد، ويسنّ إن جمع بين الأكل والتّصدّق والإهداء ألاّ يأكل فوق الثّلث، وألاّ يتصدّق بدون الثّلث، وأن يهدي الباقي‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ يجب التّصدّق ببعض الأضحيّة وهو أقلّ ما يقع عليه اسم لحمٍ وهو الأوقيّة، فإن لم يتصدّق حتّى فاتت ضمن للفقراء ثمن أوقيّةٍ، ويجب تمليك الفقير لحماً نيئاً لا إطعامه‏.‏ والمستحبّ أن يأكل ثلثاً، يهدي ثلثاً، ويتصدّق بثلثٍ، ولو أكل، أكثر جاز‏.‏ وسواءٌ فيما ذكر الأضحيّة المسنونة والواجبة بنحو النّذر، لأنّ النّذر محمولٌ على المعهود، والمعهود من الأضحيّة الشّرعيّة ذبحها، والأكل منها، والنّذر لا يغيّر من صفة المنذور إلاّ الإيجاب‏.‏

ب - ويكره للمضحّي بعد الذّبح عند الحنفيّة، أمورٌ‏:‏

61 - منها‏:‏ أن ينخعها أو يسلخها قبل زهوق روحها، وهذه الكراهة عامّةٌ في جميع الذّبائح، وهي كراهةٌ تنزيهيّةٌ‏.‏

62 - ومنها‏:‏ بيع شيءٍ من لحمها أو شحمها أو صوفها أو شعرها أو وبرها أو لبنها الّذي حلب منها بعد ذبحها، أو غير ذلك إذا كان البيع بدراهم أو دنانير أو مأكولاتٍ، أو نحو ذلك ممّا لا ينتفع به إلاّ باستهلاك عينه، فهذا البيع لا يحلّ وهو مكروهٌ تحريماً‏.‏ بخلاف ما لو باع شيئاً منها بما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه من متاع البيت أو غيره، كالإناء النّحاس والمنخل والعصا والثّوب والخفّ، فإنّه يحلّ‏.‏

وإنّما لم يحلّ البيع بما يستهلك، لقوله‏:‏ «من باع جلد أضحيّته فلا أضحيّة له» فإن باع نفذ البيع عند أبي حنيفة ومحمّدٍ‏.‏ ووجب عليه التّصدّق بثمنه، لأنّ القربة ذهبت عنه ببيعه، ولا ينفذ البيع عند أبي يوسف فعليه أن يستردّه من المشتري، فإن لم يستطع وجب التّصدّق بثمنه‏.‏ وإنّما حلّ بيعه بما يمكن الانتفاع به مع بقاء عينه، لأنّه يقوم مقام المبدل، فكأنّه باقٍ وهو شبيهٌ بما لو صنع من الجلد شيءٌ ينتفع به، كالقربة والدّلو‏.‏ وصرّح المالكيّة بأنّه لا يجوز بيع شيءٍ منها بعد الذّبح ولا إبداله، سواءٌ أكان الذّبح مجزئاً عن الأضحيّة أو غير مجزئٍ، كما لو ذبح قبل الإمام، وكما لو تعيّبت الأضحيّة فذبحها سواءٌ أكان التّعيّب حالة الذّبح أم قبله، وسواءٌ أكان عند الذّبح عالماً بالعيب أم جاهلاً به، وسواءٌ أكان عند الذّبح عالماً بأنّها غير مجزئةٍ أم جاهلاً بذلك، ففي كلّ هذه الصّور متى ذبح لم يجز له البيع ولا الإبدال‏.‏ وهذا بالنّسبة لصاحبها‏.‏ وأمّا الّذي أهدي إليه شيءٌ منها، أو تصدّق عليه به، فيجوز له البيع والإبدال‏.‏ وإذا وقع البيع الممنوع أو إبدالٌ ممنوعٌ فسخ العقد إن كان المبيع موجوداً، فإن فات بأكلٍ ونحوه وجب التّصدّق بالعوض إن كان موجوداً، فإن فات بالصّرف أو الضّياع وجب التّصدّق بمثله‏.‏ وقال الشّافعيّة‏:‏ لا يجوز للمضحّي بيع شيءٍ منها، وكذلك لا يجوز للغنيّ المهدى إليه، بخلاف الفقير المتصدّق عليه، فإنّه يجوز له البيع، ويجوز للمضحّي التّصدّق بالجلد وإعارته والانتفاع به لا بيعه ولا إجارته‏.‏ وقول الحنابلة مثل قول الشّافعيّة، وزادوا أنّه لا يجوز بيع جلّها أيضاً‏.‏

63 - ومن الأمور الّتي تكره للمضحّي بعد التّضحية إعطاء الجزّار ونحوه أجرته من الأضحيّة فهو مكروهٌ تحريماً، لأنّه كالبيع بما يستهلك، لحديث عليٍّ رضي الله عنه قال‏:‏ «أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أقوم على بدنه وأقسّم جلودها وجلالها، وأمرني ألاّ أعطي الجزّار منها شيئاً، وقال‏:‏ نحن نعطيه من عندنا»‏.‏ ‏(‏وخرج بالبيع وإعطاء الأجرة‏)‏ الانتفاع بالجلد وغيره من الأضحيّة الّتي لم يجب التّصدّق بها، كما لو جعل سقاءً للماء أو اللّبن أو غيرهما، أو فرواً للجلوس واللّبس، أو صنع منه غربالٌ أو غير ذلك فهو جائزٌ، ولأنّه يجوز الانتفاع بلحمها بالأكل وبشحمها بالأكل والادّهان فكذا بجلدها وسائر أجزائها‏.‏ هذا مذهب الحنفيّة‏.‏ وصرّح المالكيّة بمنع إعطاء الجزّار في مقابلة جزارته أو بعضها شيئاً منها، سواءٌ كانت مجزئةً، أم غير مجزئةٍ كالّتي ذبحت يوم النّحر قبل ذبح ضحيّة الإمام، وكالتي تعيّبت حالة الذّبح أو قبله‏.‏ وأجازوا تأجير جلدها على الرّاجح‏.‏ وقال الشّافعيّة والحنابلة‏:‏ يحرم إعطاء الجازر في أجرته شيئاً منها، لحديث عليٍّ رضي الله عنه السّابق ذكره‏.‏ فإن دفع إليه لفقره أو على سبيل الهديّة فلا بأس، وله أن ينتفع بجلدها، ولا يجوز أن يبيعه ولا شيئاً منها‏.‏

النّيابة في ذبح الأضحيّة

64 - اتّفق الفقهاء على أنّه تصحّ النّيابة في ذبح الأضحيّة إذا كان النّائب مسلماً، لحديث فاطمة السّابق‏:‏ «يا فاطمة قومي إلى أضحيّتك فاشهديها» لأنّ فيه إقراراً على حكم النّيابة‏.‏ والأفضل أن يذبح بنفسه إلاّ لضرورةٍ‏.‏ وذهب الجمهور إلى صحّة التّضحية مع الكراهة إذا كان النّائب كتابيّاً، لأنّه من أهل الذّكاة، وذهب المالكيّة - وهو قولٌ محكيٌّ عن أحمد - إلى عدم صحّة إنابته، فإن ذبح لم تقع التّضحية وإن حلّ أكلها‏.‏ والنّيابة تتحقّق بالإذن لغيره نصّاً، كأن يقول‏:‏ أذنتك أو وكّلتك أو اذبح هذه الشّاة، أو دلالةً كما لو اشترى إنسانٌ شاةً للأضحيّة فأضجعها وشدّ قوائمها في أيّام النّحر، فجاء إنسانٌ آخر وذبحها من غير أمرٍ فإنّ، التّضحية تجزئ عن صاحبها عند أبي حنيفة والصّاحبين‏.‏

65 - ويرى الحنفيّة والحنابلة أنّه إذا غلط كلّ واحدٍ من المضحّيين فذبح أضحيّة الآخر أجزأت، لوجود الرّضى منهما دلالةً‏.‏ وذهب المالكيّة إلى أنّه لا يجزئ عن أيٍّ منهما‏.‏ ولم نطّلع على رأيٍ للشّافعيّة في ذلك‏.‏

التّضحية عن الميّت

66 - إذا أوصى الميّت بالتّضحية عنه، أو وقف وقفاً لذلك جاز بالاتّفاق‏.‏ فإن كانت واجبةً بالنّذر وغيره وجب على الوارث إنفاذ ذلك‏.‏ أمّا إذا لم يوص بها فأراد الوارث أو غيره أن يضحّي عنه من مال نفسه، فذهب الحنفيّة والمالكيّة والحنابلة إلى جواز التّضحية عنه، إلاّ أنّ المالكيّة أجازوا ذلك مع الكراهة‏.‏ وإنّما أجازوه لأنّ الموت لا يمنع التّقرّب عن الميّت كما في الصّدقة والحجّ‏.‏ وقد صحّ «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ضحّى بكبشين أحدهما عن نفسه، والآخر عمّن لم يضحّ من أمّته»‏.‏ وعلى هذا لو اشترك سبعةٌ في بدنةٍ فمات أحدهم قبل الذّبح، فقال ورثته - وكانوا بالغين - اذبحوا عنه، جاز ذلك‏.‏ وذهب الشّافعيّة إلى أنّ الذّبح عن الميّت لا يجوز بغير وصيّةٍ أو وقفٍ‏.‏

هل يقوم غير الأضحيّة من الصّدقات مقامها ‏؟‏

67 - لا يقوم غير الأضحيّة من الصّدقات مقامها حتّى لو تصدّق إنسانٌ بشاةٍ حيّةٍ أو بقيمتها في أيّام النّحر لم يكن ذلك مغنياً له عن الأضحيّة، لا سيّما إذا كانت واجبةً، وذلك أنّ الوجوب تعلّق بإراقة الدّم، والأصل أنّ الوجوب إذا تعلّق بفعلٍ معيّنٍ لا يقوم غيره مقامه كالصّلاة والصّوم بخلاف الزّكاة، فإنّ الواجب فيها عند أبي حنيفة والصّاحبين أداء مالٍ يكون جزءاً من النّصاب أو مثله، لينتفع به المتصدّق عليه، وعند بعضهم الواجب أداء جزءٍ من النّصاب من حيث إنّه مالٌ لا من حيث إنّه جزءٌ من النّصاب، لأنّ مبنى وجوب الزّكاة على التّيسير، والتّيسير في الوجوب من حيث إنّه مالٌ لا من حيث إنّه العين والصّورة، وبخلاف صدقة الفطر فإنّها تؤدّى بالقيمة عند الحنفيّة، لأنّ العلّة الّتي نصّ الشّارع عليها في وجوب صدقة الفطر هي الإغناء‏.‏ قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم‏:‏ «أغنوهم عن الطّواف في هذا اليوم»، والإغناء يحصل بأداء القيمة‏.‏

المفاضلة بين الضّحيّة والصّدقة

68 - الضّحيّة أفضل من الصّدقة، لأنّها واجبةٌ أو سنّةٌ مؤكّدةٌ، وشعيرةٌ من شعائر الإسلام، صرّح بهذا الحنفيّة والشّافعيّة وغيرهم‏.‏ وصرّح المالكيّة بأنّ الضّحيّة أفضل أيضاً من عتق الرّقبة ولو زاد ثمن الرّقبة على أضعاف ثمن الضّحيّة‏.‏ وقال الحنابلة‏:‏ الأضحيّة أفضل من الصّدقة بقيمتها نصّ عليه أحمد، وبهذا قال ربيعة وأبو الزّناد، وروي عن بلالٍ رضي الله عنه أنّه قال‏:‏ لأن أضعه في يتيمٍ قد ترب فوه فهو أحبّ إليّ من أن أضحّي، وبهذا قال الشّعبيّ وأبو ثورٍ، وقالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ لأن أتصدّق بخاتمي هذا أحبّ إليّ من أن أهدي إلى البيت ألفاً‏.‏ ويدلّ لأفضليّة التّضحية أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم ضحّى والخلفاء من بعده، ولو علموا أنّ الصّدقة أفضل لعدلوا إليها، وما روته عائشة رضي الله عنها أنّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ «ما عمل ابن آدم يوم النّحر عملاً أحبّ إلى اللّه من إراقة دمٍ، وأنّه ليؤتى يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها، وأنّ الدّم ليقع من اللّه بمكانٍ قبل أن يقع على الأرض، فطيبوا بها نفساً»‏.‏ ولأنّ إيثار الصّدقة على الأضحيّة يفضي إلى ترك سنّةٍ سنّها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فأمّا قول عائشة فهو في الهدي دون الأضحيّة وليس الخلاف فيه‏.‏